"إن نقد الذات ونقد الآخر ممارسة توسّع من مجال الاختلاف، وتوفر إمكانية تتجاوز بها الثقافة العربية الحديثة ضروب التماثل والتطابق التي تعيق حركيتها، وتبطل فعاليتها، وتعيد إليها وحدتها، بعد أن انقسمت إلى تيارات متعارضة لا يمكن لها في نهاية الأمر إلا أن تسهم في إضفاء نوع من العدمية على ثقافة تعجز عن مناقشة إشكالياتها الخاصة بها" (عبد الله إبراهيم، المطابقة والاختلاف 1997، ص 11).
تسعى هذه الورقة إلى مساءلة المركزية المسرحية الغربية، من منظور الدراسات المسرحية في عالمنا العربي، عبر التفاعل مع السؤال الذي سبق أن طرحه المفكر العراقي عبد الله إبراهيم حول الأسباب التي تجعل الثقافة العربية الحديثة (بما فيها المسرح) تتصف بالاستجابة السلبية للثقافة الغربية. ولا شكّ أن استحضار الإرث المسرحي الغربي ضروري في هذا الباب، لأن نزعته المتمركزة جعلت رحلته من المحلية إلى الكونية تفرض إبدالًا[1] واحدًا لممارسة المسرح طغى على الأشكال الفُرْجوية الأخرى ووضعها في الهامش، إلا أن ذلك لا يمكن أن يمثل وحده التفسير الوحيد لأزمة الحداثة المسرحية العربية، ذلك أنها عانت من وطأة الافتتان بالبحث عن المطابقات والسكون إلى المرجعيات المستعارة التي نقلت معها أزماتها إلى فضاء المسرح الذي يعاني هو الآخر من أزماته الداخلية.
ويكشف عبد الله إبراهيم في كتابه القيّم الثقافة العربية والمرجعيات المستعارة عن حقيقة مفادها أن تضارب مرجعيات الثقافة العربية الحديثة وأنساقها "يمتثل لمعادلة الإقصاء والاستبعاد من جهة، والاستحواذ السلبي من جهة ثانية"[2]. وقد أفضى هذا التضارب إلى بروز ثقافة "المطابقة" عوض ثقافة "الاختلاف"؛ إذ أصبحت الثقافة العربية تندرج ضمن علاقة ملتبسة يشوبها الإغواء الأيديولوجي مع "الآخر" و"الماضي"، بحيث أصبح حضورهما "استعارة جُرِّدت من شروطها التاريخية، ووُظِّفت في سياقات مختلفة"[3]. كما يؤكد إبراهيم في قراءته الدقيقة لمساراتِ تَشكل مسألة المماثلة بين أوروبا ومصر في فكر طه حسين ما يأتي: "كان طه حسين الباحث والناقد، وبصفته الريادية، من أوائل الذين دشّنوا للإشكالية الفكرية/المنهجية التي ستتعاظم مع مرور الزمن، وهي إخضاع الذات، بجوانبها المتعددة، ومظاهرها المختلفة، لمعيار غربي، والنظر إليها من منظور الآخر، والبحث فيها، تكوّنًا وماهية من خلال رؤية غربية وبوسائل غربية"[4]. والعلّة في ذلك هو اعتبار طه حسين "الشرق القريب" "امتدادًا طبيعيًّا لمجال الغرب من ناحية ثقافية منذ الرومان"[5]. وسيتعاظم هذا الاتصال بالغرب مع محمد مندور الذي كتب في المسرح أيضًا وآخرين إلى يومنا هذا، كما ستتعاظم دعوات القطيعة مع الغرب من جهة، ودعوات العودة إلى "الأصول" من جهة أخرى، غير أن الأصول "قضية أيديولوجية أكثر مما هي تاريخية، إنها في جوهرها أيديولوجيا مختلفة تُصطنَع لخدمة صانعها، فالعلاقة مع الماضي لا بد أن تكون شفافة وخالية من التعظيم والتأثيم"[6]. وكذلك يؤكد عبد الله إبراهيم، في قراءته الشائقة لمتن طه حسين، أن مسألة المماثلة بين أوروبا ومصر متجذّرة في فكر هذا المفكر الرائد الذي عَدّ التدخلَ العثماني عقبةً أدّت إلى تخلُّف مصر في أطروحته الموسومة "فلسفة ابن خلدون الاجتماعية" التي نوقشت في السربون سنة 1917: "فنامت مصر بينما خطت أوروبا خطوات كبيرة، ولم تستيقظ إلا بتأثير الحملة البونابارتية المباركة، فنهضت واحتكت بالأوروبيين الذين غَدوا أساتذتها. وإني أعتقد بمنتهى اليقين أن تأثير أوروبا، وفي مقدمتها فرنسا، سيعيد إلى الذهن المصري كل قوته وخصبه الماضيين"[7]. وكانت نتيجة هذا الإغواء مع الغرب الآخر أو الماضي العربي هي السقوط في تَأَوْرُب مطلقٍ (مِن أوروبا) من جهة، أو اغتراب في الماضي من جهة أخرى؛ وكلاهما مساران في حاجة إلى نقد مزدوِج، كما اقترح المفكر المغربي عبد الكبير الخطيبي.
وباختصار، تروم هذه الورقة الدفاع عن الفرضية الآتية: لا يمكن لمسرحنا العربي أن يتطور بمعزل عن الاحتكاك مع الآخر ومواجهة النموذج المحلي الغربي، من خلال إبداع تفكير عابر للحدود: "يظل التفكير العابر للحدود"، وَفْق وولتر مينيولو Walter Mignolo، "الإبستيمولوجيا الضرورية للانفكاك وإزاحة الحالة الاستعمارية عن المعرفة. ومن ثمَّ، بناء تواريخ محلية ممانعة تعيد الكرامة إلى الملايين من الناس الذين سلبتهم إياها الفكرة الغربية للتاريخ الكوني"[8]. ويدفعنا هذا النوع من التفكير العابر للحدود، سواء أعند المفكر المغربي عبد الكبير الخطيبي (الذي ينعته بالنقد المزدوِج) أم عند الفيلسوف الأرجنتيني وولتر مينيولو إلى الإقامة على الحدود، وهي إقامة محفوفة بالمخاطر وكأنها رقص على حد السيف في المساحة الفاصلة/الواصلة. ولإبراز بعض معالم هذه المواقع العابرة للحدود، سأتناول في الجزء الأخير من هذه الورقة بعض النماذج العربية التي تحاول جاهدةً استشراف رحابة آفاق ذلك العصيان الإبستيمولوجي المنشود. ومن بين تلك التجارب: قمة هاملت للمؤلف والمخرج الكويتي البريطاني سليمان البسام؛ انسوا هاملت للمؤلف والمخرج العراقي جواد الأسدي؛ دموع بالكحول لفرقة مسرح أنفاس من المغرب؛ بيوخرافيا وثلاث ملصقات ووجه أ وجه ب ومَن يخاف التمثيل؟ للفنانيَن اللبنانيَين لينا مجدلاني وربيع مروة.
لم تكن الحداثة العربية ممكنة من دون حالة استعمارية coloniality ؛ إذ تُعد هذه الأخيرة مؤسِّسة للأولى بدل كونها مصوغة منها أو تشبهها في التركيب البنائي. والمسرح لا يحيد عن هذا التصور، ذلك أنه استُقدِم إلى عالمنا العربي مدعومًا من لدن جيوش الاحتلال، منذ حملة نابليون على مصر (1798 – 1801)[9]. ومنذ ذلك الحين، شكّلت الحملة العسكرية النابليونية بداية تفاعل متضارب بين الحداثة والاستعمار. وقد جاء تبنّي العرب للمسرح، في صيغته الغربية، نتيجة هذا التفاعل المفارق. فبعد فترة وجيزة من السيطرة على القاهرة في 21 يوليو 1798، "عزفت الفرق الموسيقية الفرنسية، ونُظِّمت حفلات موسيقية، وافتُتح ملهى تيفولي، بالقرب من بحيرة الأزبكية، مع غرف للرقص والألعاب والقراءة وشرب المرطبات". وبينما كان نابليون يستعد لمغادرة مصر في 22 أغسطس 1799، كتب ملاحظة مهمة لخليفته، الجنرال كليبر، موضحًا ضرورة النشاط المسرحي: "لقد طلبتُ بالفعل عدة مرات فرقةً من الكوميديين. وسأحرص بشكل خاص على إرسال فرقة إليك. فهذا البند له أهمية كبيرة بالنسبة إلى الجيش، كما أنه وسيلة للبدء في تغيير عادات البلاد"[10]. في تصور نابليون، يمكن للمسرح أن يحقق هدفين رئيسين: يكمن الأول في كَوْن المسرح من وسائل الترفيه الناجعة بالنسبة إلى الجنود الفرنسيين المغتربين في ظلمات المشرق؛ على حين ينسجم الهدف الثاني مع تنفيذ جزء من "المهمة الحضارية" الفرنسية من خلال اعتماد المسرح آليةً من أجل تغيير تقاليد أهل مصر.
وفي الواقع، تشبه التطلعات النابليونية أطروحة كارل ماركس حول الاستعمار البريطاني ومهمته المزدوِجة في الهند التي يُفترض أنها متخلّفة من منظور ماركس، إذ يقول: "يَتعين على إنجلترا أن تحقق مهمة مزدوِجة في الهند: واحدة مدمرة، والأخرى تعمل على تجديد إبادة المجتمع الآسيوي القديم، ووضع الأسس المادية للمجتمع الغربي في آسيا"[11]. وقد أدّت المهمة التدميرية إلى تفكك المجتمعات الأصلية، واقتلاع الصناعة المحلية، واختزال الثقافات الفُرْجوية المحلية في خانة الفولكلور، في حين اتّبعت عملية التجديد مسار تحديث الهند. كان التأثير في الهند جدّ عميق، إلى درجة أن الهنود وجدوا أنفسَهم بين واقعين وبوابتين: بوابة الغرب التي يتعذّر فتحها بالكامل، وبوابة الشرق التي تأبى أن تُوصَد نهائيًّا. وفي سياق تفاعل عبد الكبير الخطيبي مع هذا النص المثير للرعب بخصوص مآلات الاستعمار الإنجليزي في الهند، قدَّم قراءة دقيقة: "لقد أصبح قتل تقاليد الآخر وتصفية ماضيه أمرًا ضروريًّا لدى الغرب الساعي إلى السيطرة على العالم كي يتمكن من التوسع إلى ما وراء حدوده، على حين يبقى دون تغيير في النهاية. يجب أن يهتز الشرق من أجل العودة إلى حاضرة الغرب"[12]. هكذا إذن، أُدخِلت التقاليدُ المسرحية الأوروبية بوصفها قوة ناعمة ووسيلة ناجعة لإعادة الشرق إلى ذلك الغرب المتمركز حول ذاته. كما عُدّ الإبدال المسرحي الأوروبي أفقًا كونيًّا يجب تبنّيه من طرف الإنسانية جمعاء.
غالبًا ما يُعد المسرح فنًّا أوروبي المنشأ؛ اكتملت نشأته في اليونان القديمة، وانتشر في مختلف أنحاء المعمورة بوصفه فنًّا أوروبيًّا خالصًا. ولكن البحث في أصول التراجيديا والكوميديا يؤكد عكس هذا التصور المتمركز. فهذا جيلبرت موراي Gilbert Murray المتأثر تأثرًا كبيرًا بكِتاب الأنثروبولوجي الإسكتلندي جيمس فريزر James Frazer الغصن الذهبي The Golden Bough قد عدّ الكوميديا احتفالًا بزواج الآلهة والخصوبة الناتجة عن جمعهم السعيد؛ على حين رأى أن التراجيديا نعي لموت إله ما، وعادة ما تحدث في الخريف. وهناك أيضًا جيرار فرانك إيلز Gerard Frank Else الذي اقترح نظرية بعيدة عن طقس ديونيزوس معتبرًا التراجيديا إنتاج إبداعين متعاقبين لثسبيس Thespis وإسخيلوس Aschylus. ومن ثمَّ، مرّت ولادة التراجيديا في اليونان القديمة عبر مراحل معروفة ومدروسة بعناية بدءًا من المعلم الأول أرسطو؛ نشأ على قاعدتها نتائج أهمُّها فرض العصر المسرحي اليوناني القديم بوصفه الأصل الذي لا محيد عنه في ممارسة أي فعل مسرحي، حتى إنه غدا المرجع الصامت والمعلن الذي فرضه الغرب عبْر سرده المحلي. وهو ما يستوجب منّا إعادة النظر في كثير من اليقينيات المرتبطة بالولادة المحتملة للتراجيديا والكوميديا[13]. فمِن خلال هذا السرد أُعيد تملك طقس ديونيزوس والمراحل المتنوعة لتطور التراجيديا كما نَظَّر لها المعلمُ الأول أرسطو، وفرضها بالقوة أكثرُ النقاد المسرحيين الغربيين تأثيرًا، بوصفها أساس الفن المسرحي الجديد الخاص بالأوروبيين وحدهم دون سواهم.
وكان من نتائج ذلك أن أصبحت بنية الحضور المستندة إلى العصر المسرحي الأوروبي الأول مهيمنة في الدوائر الأكاديمية بصفتها كونيةً، غير أنها في واقع الحال موغلة في المحلية، لكونها مجرد سرد محلي. كما أن طقس ديونيزوس لم يكن متأصلًا في سيسيون Sicyon، بل أُدرِج هناك بوساطة كليثينيس Cleithnes، مثلما أُدخِل قبل ذلك إلى أتيكاAttica وناكسوس Naxos، وفُرِض على حساب طقس الملك القديم أداستوس Adastus الذي تحوّل قبرُه إلى فضاء مقدس لطقوس عبادة الميت. ولم تكن صيغة ديونيزوس الطقوسية إغريقية في الأصل، بل وصلت إلى اليونانيين في حدود القرن الخامس قبل ميلاد المسيح.
لقد تطورت التراجيديا بفعل تناسج مضمر لثقافات فُرْجوية مختلفة يصعب فرزها نتيجة انصهار مكوناتها وتحولها، لتعطينا في نهاية المطاف شكلًا فُرْجويًّا هجينًا سُوِّق على أنه الأصل الخالص للفن المسرحي. فإذا كان الطقس الديونيزوسي من الأصول الشرقية البعيدة التي لم تكن بموجبها التراجيديا الإغريقية مجرد إنتاج للممارسات الفُرْجوية الديثرامبية الآسِرة، فإن ادعاءها الأصل والاكتمال يُعد مغالطة ينبغي أن توضع قيد المساءلة مع وجوب إزاحتها بطريقة كلية، لا سيما وقد كُرِّست منذ أمد طويل، وبإعجاب كبير، على امتداد تاريخ الأدب المسرحي، حيث جعلت من التاريخ المحلي الإغريقي، والروماني من بعده، كأنه التاريخ الإنساني الأوحد.
وهو ما يلاحظه الباحث الإنجليزي من جامعة كامبريدج ويليام ريدجواي William Ridgeway- في بداية القرن العشرين عام 1915 في سياق مناقشة تاريخ الأدب المسرحي– إذ يرى أن ما "قام به المؤرِّخون من دون استثناء، وحتى سنوات قليلة فقط، هو تركيز اهتمامهم على انبعاث الدراما الإغريقية وتقليدها في روما، بدءًا من مسرحيات الأسرار، ومرورًا بمعجزات المسيحية القروسطية وإعادة إحياء الشكل الكلاسيكي، وانتهاءً بتطورها المدهش في مسرحيات كريستوفر مارلو Christopher Marlowe، وشكسبير Shakespeare، وكالديرون Calderon، وكورناي Corneille، وراسين Racine، فقد استندوا إلى منطق للجماليات سابق، بدلًا من بحثهم عن أصل المسرح من خلال تطبيق صارم للمنهج التاريخي والاستنباطي"[14].
في أواخر القرن التاسع عشر سيُثبِّت التمركز الأورو-أمريكي نفسَه عبر استغلال آليات اشتغال الفرق الشرقية التي كانت تزور المعارض الكولونيالية أو أثناء الجولات الفنية المشابهة. إذ خلَّفت اللقاءاتُ المسرحية الأولى بين الشرق والغرب كثيرًا من الدهشة والتساؤل وسوء الفَهْم. وانبهرَ النقاد والمسرحيون الغربيون بقوَّة الأداء الآسيوي دون التمعن في إواليات اشتغاله وفلسفات عمله. وأصبح المؤدِّي الآسيوي نموذجًا يحقق رهان "الممثل الشامل" Total Actor.[15] ومع بداية الستينيات من القرن العشرين، بدأت رحلة المسرحيين الغربيين الميدانية المختبرية في اتجاه الشرق، وعلى رأسهم أوجينيو باربا Eugenio Barba وجيرزي غروتوفسكي Jerzy Grotowski. وكانت رحلة التعلُّم والنهل من خبرات الجسد الفُرْجوي الشرقي التي تفتق عنها أهـم إنجازات المسرح الغـربي المعـاصر.[16]
كيـف ينبغـي، إذن، تَمثّـل هـذه الرحلة من وجهة نظرنـا نحن، هنا، الآن؟ أذلك تمردٌ (مـن الداخل) عـلى المركزيـة الغربيـة وبنيـات التفكير المثالية/الماهوية المرتبطة بها، أم اتساعٌ لمساحات المركزية الغربية الهادفة إلى احتواء الآخر ومحو اختلافـه؟ وهي الحقيقـة التي يقـرّ بها أغلب الباحثين المسرحيين، ولا يخرج عنها حتى دعـاة مسرح المثاقفـة، ومنهم الباحـث الفرنـسي باتريـس بافيـس Patrice Pavis الذي يقـول في هـذا الشأن: "إذا كان هنالك خطاب يجب أن نسعى إلى تجــاوزه، فهـو التمركـز الأوروبي المنكفئ الـذي يجعـل مـن أوروبا حصنًا منيعًا ضد أي شكل مـن أشكال المثاقفــة مع آخرهـا... لقـد كان اسـتشراف آفـاق المثاقفـة خارج مدار المركزية الأوروبية رهانًا إسـتراتيجيًّا لحل مشاكل المسرح المعاصر"[17].
ولا ينكر باتريس بافيـس المنطـق البرغـماتي الـذي خضعـت له عملية المثاقفـة المسرحية الغربية المعـاصرة. فاللقـاء المسرحي الغـربي مع الآخر الشرقي لم يخرج عن إطار اختزال الغرب لآخره ضمـن فضاء طقــوسي بدائي "ما قبل مسرحي"، حيث كان همُّه الأكبر يتمثّل في إيجاد حلول لمـأزق الممارسة المسرحية الغربية وبنياتها المنغلقـة ضمن مسوّغات الواقعية الطبيعية، وذلـك عبر الانفتاح عـلى رحابة صناعة الفُرْجة الأفرو-آسـيوية وروحانيتها التي تسمو بطاقـة الممثلين/الفاعلـين، وتوحِّـد وجدانَهـم في نطـاق الفُرْجة المسرحية. كما أن تلقي ثقافـة مسرحية مغايرة لا يمحـو الثقافـة الأصليـة بأي حال من الأحوال، إذ تظـل هـذه الأخـيرة توجـِّه التبادلات الرمزيـة والماديـة بشكل غـير معلن، وهـذا ما حدا بالمسرحيين الغربيين إلى إفراغها أحيانًا من سياقاتها الفُرْجوية والثقافية وتطويعها وإخضاعها لبنيات فُرْجويـة مغايرة مـن حيث الشكل والمضمون، وكذلك سـياق التحقق أو الإنجاز الفعلي عـلى شكل فُرْجة مسرحية.
لقد أصبحنا نلاحظ نزوعًا متزايدًا من عدة مسارح غربية إلى تبنّي عناصر فُرْجوية تنتمي إلى ثقافات مسرحية أخرى. وفي سياق انجذاب عدد من المسرحيين الغربيين نحو الشرق، لجأ كل من الإيرلندي وليام باتلر ييتس W. B. Yeats والفرنسي جاك كوبو Jacque Copeau في بداية القرن العشرين إلى مسرح النو Noh الياباني من أجل اقتراح دراماتورجيا جديدة؛ وفي السياق ذاته لجأ كوردن كريك Gordon Graig- إلى الأقنعة الأفريقية. واستلهم ماكس راينهارت Max Reinhardt مسار الورد[18] الذي يربط الخشبة بالجمهور في الزاوية اليمنى من المسرح في تقليد الكابوكي Kabuki، والمعروف في اليابان باسم هاناميتشي Hanamichi، وذلك في محاولته إعادة النظر في الترتيب المسرحي البرجوازي قبل تلميذه بيرتولت بريشت Bertolt Brecht الذي تأثر هو الآخر بجماليات الأداء الشرقية، وبخاصة عملاق أوبرا بيكين مي لانفانج Mei Lanfang الذي شاهده لأول مرة في موسكو سنة 1935[19]. لقد أعجب راينهارت وشارل دولان Charles Dullinوآخرون بتشكيل الفضاء في المسرح الياباني؛ حيث وجدوه شكلًا مخالفًا للترتيب المسرحي الغربي المعلّب والمحكوم بالجدار الرابع. ومن ثمَّ، أصبح هذا الشكل نموذجًا للمسرح الجديد. ومن هنا، اعتمد فسيفولود مايرهولد Vsevolod Meyerhold وبريشت و أنتونين آرطو Antonin Artaud على أشكال مختلفة من المسارح الآسيوية الشرقية من أجل تحقيق علاقة جديدة بين الخشبة والصالة، ومن ثمَّ تحقيق أشكال جديدة من التلقي المفترض.
أما بيتر بروك Peter Brook ، فقد جرّب الرقص المسرحي الكتكالي Kathakali الهندي في عديد من المناسبات، ذلك المسرح العريق في التقاليد الفُرْجوية الهندية الذي ينتظم دائمًا في شكل مشاهد درامية مستمدة من الملحمتين الهنديتين الشهيرتين: ملحمة مهابهاراطا Mahabharata وملحمة رامايانا Ramayana، وأهم النصوص المقدسة الهندوسية. يقول بروك في مطلع كتابه الشهير المساحة الفارغة: "يمكنني أن آخذ أي مساحة فارغة وأُسميها خشبة عارية. ويقتحم رجلٌ هذه المساحةَ الفارغة على حين يشاهده آخر، فهذا كل ما أحتاجه لتحقيق الفعل المسرحي"[20]. ولكن، هل توجد حقًّا مساحة فارغة؟ لقد أثار إنتاج مهابهاراطا (اقتباس جان كلود كاريير Jean-Claude Carrière وإخراج بيتر بروك)، الذي قُدِّم لأول مرة في مهرجان أفنيون Avignon عام 1985 لمدة تسع ساعات، نقاشًا حادًّا تمحور حول مدى فراغ المساحة التي جرت فيها إعادة صياغة مهابهاراطا بحمولاتها الثقافية والدينية. فبرغم أن بروك يشتغل مع مجموعة هائلة من الممثلين من ثقافات ولغات مختلفة، فالكل يشتغل باللغة الإنجليزية (لغة الشيخ بروك)، والكل يأتمر بأوامر بروك المدير الفني والموجِّه الحقيقي لمسارات استنبات مهابهاراطا في مساحته الفارغة المزعومة: "وعندما يضع بصماته على العمل، لا يعود هؤلاء ينتمون إلى ثقافاتهم بقدر ما يصبحون جزءًا من عالم بيتر بروك"[21].
ولعل أهم نقد وُجِّه إلى بيتر بروك خلال فترة حروب المثاقفةIntercultural wars هو كتابات الباحث الهندي روستم بهاروتشا Rustom Bharucha التي خلصت إلى أنه يستحيل عزل ملحمة مهابهاراطا عن النص التراثي العريق أو حتى التمظهرات الفُرْجوية المرتبطة بهذه الملحمة على اختلاف المدارس الأدائية الهندية. لقد كان روستم بهاروتشا من أشد منتقدي بروك وأجرأهم وأشرسهم؛ كما يُعد كتابه المسرح والعالم Theatre and the World[22] من أهم السجلات التي تؤرِّخ لهذه المرحلة من النقاش الحادّ في الأوساط الأكاديمية والفيدرالية الدولية للبحث المسرحي بشكل خاص. وواقع الحال، أسهم نقدُ روستم بهاروتشا لبروك في إثارة الانتباه إلى المنحى الاستشراقي والفولكلوري لكثير من التجارب المسرحية الغربية التي اعتمدت بعض الصيغ الفُرْجوية القادمة من الآخر الشرقي والجنوبي.
ومن المعلوم أن عرض مهابهاراطا بيتر بروك كان مجرد محطة ضمن مسيرته الحافلة بفلسفة المثاقفة ضمن مشروعه الحالم للبحث عن لغة مسرحية كونية. ومن ذلك مسرحيته التي اشتغل فيها على كتاب منطق الطيرConference of the Birds ، وقدمها في مهرجان أفنيون عام 1979، مستلهمًا منظومة منطق الطير لأحد أكبر أئمة التصوف الإسلامي، الفارسي فريد الدين العطار. وقد تطلّب إنجاز هذا العمل الضخم التنقل عبر الصحراء الأفريقية والتشبع بطقوسها وفرجاتها لمدة سنتين من 1972 إلى 1974، وكذا إقامته الفنية في Campesino El Teatro بكاليفورنيا مع فريق متعدد الجنسيات[23].
وقد تعرّض مسرح المثاقفة الغربي إلى النقد، ومنه نقد بهاروتشا الذي طرح قضايا ذات أهمية بالغة من قبيل مفاهيم المثاقفة والمناصفة، ومدى تأثر المثاقفة بفعل سيرورة العولمة، ومدى استقلاليتها عن إواليات اقتصاد السوق والنزعة الاستغلالية. ذلك أن فعل المثاقفة لم يصبح ممكنًا إلا من خلال تبادلات غير منصفة في العمق، وخاضعة لقواعد لعب غير سليمة. وعمومًا، اتجهت الرحلة المسرحية الغربية نحو الشرق إلى استغلال وتبنّي الأشكال الفُرْجوية غير الغربية خدمةً لكونية مزعومة. والحاصل أنها كرّست الانجذابات الثقافية الإمبريالية أكثر من العمل على تقويضها، وذلك من خلال نقل أشكال تعبيرية بعينها إلى بنيات الإنتاج المسرحي الغربي، بمعزل عن مراعاة سياقات تحققها؛ وهذا في جوهره ما هو إلا أحد تمظهرات الحالة الاستعمارية.
وعمومًا، لا يزال هذا النوع من المثاقفة المسرحية المهيمنة مستمرًّا حتى الآن؛ ويتلقى الدعم الكافي من الجهات الراعية للثقافة الاستهلاكية. وأُمثّل لهذا الاستمرار بآخر إنتاجات المخرج الأمريكي العالمي روبرت ويلسون Robert Wilson في تايوان عامي 2009 و2010، والمخرج البريطاني تيم سابل Tim Supple - مقتديًا بخطى مواطنه بيتر بروك- أثناء رحلته لاستشراف رحابة الغيرية في كل من الهند والعالم العربي بين عامي 2006 و2011. لقد أسفرت إقامة ويلسون الفنية في تايوان عن إنجاز عرضين قُدِّما هناك بدعم معنوي ومادي كبير من الحكومة التايوانية هما: أورلاندو Orlando عام 2009، والسفر الكبير The Grand Voyage عام 2010[24].
اقتُبسِت مسرحية أورلاندو من رواية فيرجينيا وولف Virginia Woolf بالعنوان نفسه، وكان الهدف منها الاحتفاء بالثقافة والتراث التايواني، وبخاصة تقليدها الأوبرالي جينغجو Jingju وترويجه على المستوى الكوني. وكانت نتيجة هذا العرض المسرحي أنه لم يعبّر عن الثقافة التايوانية؛ بل تَمثلها وَفْق تصور ويلسون وطريقة اشتغاله؛ وعِوَض أن تؤدي الممثلة الرئيسة هي هاي مينغ Wei Hai Ming دورَها بطريقة جينغجو Jingju المعهودة والمفعمة بما يسميه باربا "التقنيات الخارجة عن اليومي" "Extra-daily techniques"[25] طُلِبَ منها أن تتحرك وَفْق مخطط ويلسون الموضوع سلفًا ضمن خطاطة الدراماتورجيا الركحية[26] التي اقترحها على الفاعلين التايوانيين منذ اللقاء الأول الذي جمعهم به. وقدّم ويلسون، في السنة التالية، عرض السفر الكبير The Grand Voyage في المكان نفسه (المسرح الوطني بالعاصمة تايبي Taipei)؛ لكن بالمقارنة مع عرض أورلاندو، أُتيح المجال أكثر للمشاركة التايوانية في السيرورة الإبداعية. كتب المخطوط الكاتب التايواني ليورويو Liuruoyo؛ واعترى العرضَ غموضٌ أسهم في سوء فَهْم نتيجة مثاقفة غير متكافئة من ناحية الاختيارات الجمالية ومعها الأجندات. وقد استلهمت المسرحية آخر سفر للبحار الصيني المسلم زينغ هي Zheng He (المسمى بالعربية حجي محمود شمس)، ضمن سبعة أسفار عُرِفت بالحملات البحرية الصينية بين عامي 1405 و1433. وقد اختار ويلسون كعادته أن يبحر بشاعرية نافذة في أعماق رجل وحيد يبحث عن السلم والمصالحة مع الذات، عِوَض إعادة نقل الوقائع التاريخية كما هي؛ حيث مزج العرض بين الطقوس المسرحية التايوانية بطبولها ورقصاتها المعهودة والجاز الأمريكي. ولكن النُّخب التايوانية استقبلت العرض الأول في 20 فبراير 2010 ضمن حفل افتتاح فعاليات مهرجان التايوان الدولي بتساؤلات جدّ مهمة في نقاشنا الحالي؛ إذ تساءل الكثيرون: أين الثقافة التايوانية؟ إنها مجرد تصورات ويلسونية للثقافة التايوانية.
وهذا النوع من المثاقفة المسرحية المهيمنة لا يزال مستمرًا حتى الآن؛ كما يسهم في تكريسه جمهور غربي متعطش إلى كل ما هو مختلف. ومن أمثلة هذه الاستمرارية، نقف على آخر إنتاجات المخرج البريطاني المرموق تيم سابل الذي رحل إلى العالم العربي بين عامي 2006 و2011 محاولًا إعادة ألف ليلة وليلة One Thousand and One Nights إلى "أصولها" الشرقية؛ غير أن محاولته هذه لم تخرج عن نطاق مسرح المثاقفة المهيمن لروبرت ويلسون وآخرين. وقد أنجز عمله هذا بدعم من مهرجان تورنتو، إذ بعد إنتاجه مسرحية حلم ليلة صيف A Midsummer Night’s Dream في الهند رفقة فنانين هنديين وعرضها على المسارح الأوروبية والأمريكية، حيث نالت تقديرًا كبيرًا من منظمي مهرجان تورنتو للفنون والإبداع (لوميناتوLuminato )، منحه هذا المهرجان مبلغ 2 مليون دولار لإعداد ألف ليلة وليلة لافتتاح فعالياته في يونيو 2011[27].
ومن المعروف أن تراث ألف ليلة وليلة الثري دخل أوروبا عبر الترجمة الفرنسية لأنطوان جالان Antoine Galland سنة 1704 وبعدها تُرجِم إلى الإنجليزية سنة 1706 ثم إلى بقية اللغات الأوروبية لاحقًا. وصحيح أيضًا أن الترجمات كانت قد ابتعدت كثيرًا عن "البدايات": بدايات تشكُّل حكايات ألف ليلة وليلة وسفرها المستمر عبر الزمن والجغرافيا من حيث هي ذاكرة مجسدة؛ إلا أن تيم سابل حاول "البحث عن شخصياتها المتفردة، وما كان منها موجودًا قبل استحواذ الغرب عليها"[28]. ألم ينتهِ المطاف بكل هذه النوايا الحسنة إلى إعادة امتلاك الجمهور الغربي لـ"جوهر" هذه الحكايات؟ ويبقى التساؤل مستفزًا في سياقنا الثقافي العربي، ويتمثل في: لماذا لم يُقدَّم العرض الذي يستثمر أحد عناصرنا الثقافية التراثية المهمة في أي من البلدان العربية، هذا رغم اعتماده على نصوص الكاتبة الروائية اللبنانية حنان الشيخ، وثلّة من الفنانين العرب، بالإضافة إلى المدة الطويلة التي قضاها فريق العمل في التنقل بين المدن العربية؟ مَن هو جمهور هذا العرض؟ فطيلة السنوات الخمس التي استغرقها التفكير والإعداد لعمل ضخم كهذا، كان تيم سابل يؤكد دائمًا استعارة السفر والسعي نحو لقاء الآخر، ومحاولة فَهْمه في نطاق اختلافه، والرغبة في تعميق اشتغاله من خلال سيرورة العمل مع الفنانين العرب؛ وبرغم محاولته هذه الاقتراب من الآخر فلم يتمكن من تجاوز منطق الهيمنة المعهود في أعمال مواطنه بيتر بروك والأمريكي ويلسون. ذلك أنه، في نهاية المطاف، هو الذي حدد معالم النتاج النهائي، وقدّمه إلى الجمهور الغربي في شبكة المهرجانات الكبرى في أوروبا وأمريكا، وهو الذي أعاد الصياغة الدراماتورجية لحكايات حنان الشيخ، هو الآخر الذي قرّر ما يمكن عرضه وما ينبغي حذفه. ومن ثمَّ، يمكن القول إن مسرح المثاقفة الغربي هو أكثر من جنس فني، لأنه بنية تفكير تجمع بين رأسمال العالم الغربي وتفوقه من جهة، والمادة الخام وعمالة بقية العالم من جهة أخرى. وفي الغالب، تُعتمَد النصوص المسرحية الغربية "الخالدة" من الريبيرتوار اليوناني أو الشيكسبيري، لكن بأساليب تمزج عناصر أدائية/ فُرْجوية "شرقية". كما تطرح حالة المثاقفة إشكالات من قبيل هيمنة النموذج الغربي على آخره، والتبعية الثقافية بين الشمال والجنوب.
تزامنت بدايات المسرح العربي الحديث منذ بخيل مارون النقاش (1847-1848) مع الهجمة الاستعمارية الغربية. لذلك اتسمت اختيارات الروّاد الأوائل في المشرق والمغرب بتناسج وتثاقف ملؤهما التلقي المنتج المحكوم بإعادة مخالفة لما سبق. وهو التلقي المبني على استيعاب الثقافة الفُرْجوية الوافدة من الآخر وتجاوزها في الآن نفسه، في أفق إنتاج المختلف ضمن مسارات التأصيل. ولم تعمل تلك "الهجنة" على نسخ النموذج الأوروبي، بل استفزته وأربكت ادعاءه الاكتمال، في الوقت نفسه الذي ابتكرت فيه طرائق مختلفة لتكراره بشكل مختلف بوصفه "غنيمة حرب". والحاصل أن صيغة التكرار هاته كانت– ولا تزال- محكومة بإعادة مختلفة لما سبق من النماذج المسرحية الغربية. وبالنظر إلى حجم الخسائر التي خلّفها الاستعمار، كان نداء الفيلسوف الاجتماعي المارتينيكي فرانز فانون Frantz Fanon (1925-1961) منطقيًّا ومشروعًا إبان فجر الاستقلال: "فمن أجل أوروبا، ومن أجل أنفسنا، ومن أجل الإنسانية، يجب علينا يا رفاق، أن نلبس جلدًا جديدًا، أن ننشئ فكرًا جديدًا، أن نحاول خلق إنسان جديد"[29]. ومع ذلك، لم تكن هذه الدعوةُ التي ختم بها فانون كتابه القيم معذبو الأرض The Wretched of the Earthالحل الأمثل بالنسبة إلى الجزائر وبقية شعوب الجنوب التوّاقة إلى الاستقلال وبناء الدولة الوطنية. فقد أصبح هذا الغرب الآخر أشد توغلًا في كياننا وذاكرتنا الجمعية وسلوكنا اليومي، إذ من الصعب مثلًا غضّ النظر عن مائة واثنتين وثلاثين سنة من الاستعمار الاستيطاني للجزائر من لَدُن فرنسا. كما أنه من الصعب محو التأثير المسرحي الفرنسي بين عشية وضحاها سواء على مستوى البناية المسرحية، أو المفردات المسرحية، أو تقنيات الصناعة المسرحية، أو الإبدال المسرحي بصفة عامة وبنيات التفكير المرتبطة به.
وعلى سبيل المثال، كان أول مسرح أوروبي حديث بُني على التراب المغربي هو مسرح إيسابيل الثانية Teatro Isabel II، الذي سُمي على اسم ملكة إسبانيا، مباشرةً بعد الغزو الإسباني لمدينة تطوان سنة 1860. وقد شُيِّد باعتماد الخشب مادةَ بناء أولية، وهو من تصور المهندس المعماري الشهير في ذلك الوقت السيد لوبيز كاميراLopez Camera . ومع ذلك، أُغلِق هذا المسرح في 5 مايو 1862، وبعد ذلك فُكِّك لأن الغزو الإسباني للمدينة لم يدم إلا عامين فقط[30]. وخلال فترة الحماية الفرنسية/الإسبانية، أسس الإسبان كثيرًا من المسارح الأخرى في مجموعة من المدن المغربية. ففي مدينة طنجة بُنِي تياترو سرفانتس Gran Teatro Cervantes، وفي مدينة تطوان شُيِّد كل من تياترو ناسيونال Teatro Nacional وتياترو إسبانيول Teatro Español، وفي مدينة العرائش بُنِي تياترو كوليزيو Teatro Coliseo وتياترو إسبانيول Teatro Español ، وفي القصر الكبير أُقِيم تياترو بيريز كالدوس Teatro Perez Galdos . أما ناحية المحمية الفرنسية فقد بُنِي المسرح البلدي Le Théâtre Municipal بمدينة الجديدة (الذي تحول الآن إلى مسرح عفيفي)، ومسرح آخر في مدينة وجدة بالجهة الشرقية من البلاد، على حين أُطلِق اسم المسرح البلدي Le Théâtre Municipal على فضاء أحد الكازينوهات التي أُعيد ترميمها في مدينة الدار البيضاء. وهكذا انتشرت البنايات المسرحية في المغرب. كما انتشرت بموازاة هذه البنايات المسرحية بنية تفكير مستحدثة فيما يتعلق بالممارسة المسرحية، وهي بنية طغى عليها التأويل الغربي لماهية المسرح.
في ضوء ما سبق، تفرض علينا الأسئلة الآتية نفسها: كيف يتسنى للمرء أن يفكر بطريقة عابرة للحدود إذا كان من الصعب في الحقبة الراهنة التمييز بين الاختلافات الثقافية والمسرحية على وجه الخصوص؟ ألم يَحِنِ الوقت، بعد، للاهتمام بالتفاعلات المسرحية شرق-غرب/جنوب-شمال؟ هل المسرح العربي معزول عما يقع في عالم اليوم، أم يشكل جزءًا من المشهد المسرحي الكوني؟ ألم يسبقنا هذا الغرب بتعدده في الثورة على التقليد الإيطالي المتمثل في ركح/صالة والدعوة بطرق مختلفة إلى عودة المسرح إلى بداياته (مع فلسفة روسّو Rousseau، وألفريد سيمونAlfred Simon ، وآرطو، وبريشت، وجان فيلار Jean Vilar ، وغروتوفسكي، وباربا، وبوال Boal ...)؟ ألم يَحِنِ الوقت أيضًا لتعميق الحوار جنوب-جنوب مسرحيًّا؟ هل بإمكان الحساسيات المسرحية الجديدة في عالمنا العربي أن تطرح أسئلتها حول موقعها وتطلعاتها وتناسجها مع أطرافها وآخرها في ظل عالم معولم وسريع التحول؟ هل بإمكانها فرض خصوصيتها واختلافها مع الانخراط في الكونية؟ ما إمكانات حضورنا في العالم؟
لقد أشرت سابقًا إلى أن أوروبا قد شكلت المرجعية الصامتة والثابتة وغير-المكشوفة للفن المسرحي منذ الزمن المسرحي الأوروبي الأول مع الإغريق القدامى، رغمًا عن الإمكانات الهائلة التي تتوفر عليها بقية الثقافات الفُرْجوية عبر العالم. وبالنظر إلى وضعنا الما بعد استعماري الحالي، لا يمكن للقطيعة مع الغرب أن تؤسس اختلافنا. وكما أكد ذلك عبد الله إبراهيم في كتابه المطابقة والاختلاف: "ليس المقصود بـ'الاختلاف' هنا، الدعوة إلى 'القطيعة' مع الآخر، والاستهانة به، واختزاله إلى مكون هامشي، ذلك أن القطيعة لن تحقق إلا العزلة والانغلاق، والاعتصام بالذات ومطابقتها على نحوٍ نرجسي مرضي لا يمكّنها أبدًا من أن تتشكل على نحو سليم ومتفاعل ومتطور"[31]. صحيح أن الخلاص "لن ينبعث من رحم ذات الإبستيمولوجيا التي خلقت الحاجة للانفكاك"[32]. ولكن المقاومة لن تنبعث أيضًا من خارج علاقة السلطة، كما يؤكد فوكو: "لا تكمن المقاومة في وضع خارج عن العلاقة بالسلطة"[33]. فأينما وُجِدت علاقة سلطوية بين طرفين أو أكثر، يترتب عن هذه العلاقة مقاومة أو ممانعة من نوع ما. وتتجلى علاقة السلطة هذه في الوضع الاستعماري الذي عانت منه أغلب دول الجنوب بما فيها دول شمال أفريقيا. وبرغم زوال الاستعمار الاستيطاني في النصف الثاني من القرن المنصرم، فلا تزال الحالة الاستعمارية colonialityقائمةً، وهي مستمرة ومدعومة بقوة من قبل "الشمال الإقطاعي في الجنوب" أو النُّخب الحاكمة في "ما بعد المستعمرة" والمدعومة من طرف القوى الكولونيالية السابقة. وهذا مفاده أن النزعة الاستغلالية التي صاحبت "مسرح المثاقفة" لن تزول إلا بزوال تلك الحالة الاستعمارية المستمرة، أو ما يسميه البعض الاستعمار الجديد neocolonialism. ولذلك، يجب البحث عن أنجع سبل الانفكاك من تلك الحالة الاستعمارية المتوغلة في أوطاننا وبنيات تفكير البعض منا. إلى هنا وَجَب التذكير بأن "الغـرب" ليس واحدًا متجانسًا مثله في ذلك مثل "الـشرق" أو "الجنوب". فالشمال الإقطاعي في الجنوب يلتقي مع مصالح "الغرب المهيمن". لذلك، ينبغـي التحلي بنوع من الاحتراس المنهجي لتفـادي الانـزلاق في التعميمات التي تفتقد إلى الدقة والمصداقية، إن لم نقل، الموضوعية.
لقـد ألمحتُ مرارًا إلى أن عالمنا العربي (والمغرب على وجه الخصوص) يتواجد في وضع تخومي ملتبس: بـين تقاليد لا تزال حاضرة بقـوة في حيواتنا الفردية والجماعية، ووعـود حداثة لا يزال الجميع يتطلع إليها بإلحاح أكثر في ظـل زمن "ما-بعد الربيـع". ولطالما تحدثنا عـن دراماتورجيا الهجنة hybridity من حيث هي مزج بـين تقاليد الأنا والآخر، ووَصْل بـين الأزمنة، بـل تَمثُّل لها في الآن نفسـه. إنها تموقع بـين البوابتين: "بوابة الـشرق" التي ترفض الانسداد تمامًا، و"بوابة الغرب" التي تأبى أن تُفتَح عـلى مصراعيها. ومع ذلك، وَجَب إيضاح أنه غالبًا ما ينظـر إلى "الهجنة" من منظور جوهراني بوصفها ذلك الـذي لم يَعد ينتمي إلى جنسه، أو طبيعته الأم. وقد أدى هذا الفَهْم إلى التشويش على "لحظة الهجنة" كما نظَّر لها هومي بابا Homi Bhabha من حيث هي لحظـة مفصلية في مسار إرباك سلطة الحالة الاستعمارية. فالمقصود بالهجنة تلك اللحظة التي ترتبك فيهـا المركزية الغربية عبر تكرار النموذج المسرحي الغريب واستنساخه، لكن بشكل مختلف. إنها (لحظة الهجنة) مـا يدعـوه هومـي بابـا "الفضـاءالثالـث".[34] وهـو فضـاء حـدّي تصعـب معالجتـه بالقـدر نفسـه الـذي يصعب فيـه اختزالـه إلى مجـرد انصهـار كيانـين نقيـين مثل "شرق/غرب". وبنـاء عليـه، ينبغـي النظـر إلى الهجنـة مـن حيـث هـي "ترجمـة ثقافيـة تنفـي جوهرانيـة ثقافـة أصليـة مـا"[35]، والحـاصل أن كل الأشـكال الثقافيـة توجـد في هجنـة باسـتمرار؛ لكـن مفهـوم "الهجنـة" قـد شـابه الكثـيرُ مـن الالتبـاس. وهـذا مـا حدا بهومـي بابـا إلى إعـادة التفكـير في المفهـوم، بعـد تداولـه وتبنّيـه مـن لـدن الـشركاء والفرقـاء: "وأخـيرًا، أعتقـد أن هنـاك سـوء فَهْـم حـول مفهومـي للهجنـة. في الحقيقـة، الهجنـة بالنسـبة إليّ مرتبطـة بكيفيـة التفـاوض بـين النصـوص والثقافــات أو الممارســات في حالــة عــدم تكافــؤ القــوى... الهجنــة عمليــة تلفظيــة أيديولوجيــة لهــا علاقــة بالنضــال مــن أجــل الســلطة وإعــادة النظــر في خطابــات الهيمنــة. إنهــا ســيرورة اجتماعيــة، وليســت حـول الأشـخاص مـن أذواق وموضـات متنوعـة"[36]. المطلوب الآن، تجاوز وضعيـة الهجنة واسـتثمار تراكمات الجسد الفُرْجوي العربي وخبراته من منظـور التفكير العابر للحدود، وهو تفكير ينفلت من قبضة مركزية الغـرب بالدرجة ذاتها التي يحاول فيها الانفلات مـن مركزيـة الـشرق، وكأنه رقص على حدّ السيف وإقامة على الحدود الفاصلة/الواصلة.
وإذا ما افترضنا أن الحدود بـين الممارسات الدراماتورجية الحداثية وما بعـد الحداثية لدى الغرب قد أضحت ملتبسة ويشـوبها الكثـير من الخلط في ما يتعلق بمفاهيـمها المؤسِّسة، فإن الأمر يـزداد تعقيـدًا عندنا نحن العرب، وبخاصة أننا ابتُلينا بتخمة تداخل الأزمنة (كلاسـيكية، حديثة، ما بعد حداثية) نتيجـة الوضع الكولونيالي والتحديث القـسري منذ الحملة الفرنسية على مصر. لذلك كله، أدّت حداثتنا المسرحية منذ بخيل مارون النقاش إلى تعميق هُوّة الاغتراب أحيانًا، واختزال المسرح العربي في دعوات إلى "تقليد الغرب" أو "جنوح ماضوي"، من حيث كونهما مسارين يسلبانه إمكان التطور، وارتياد آفاق المغايرة والتفاعل مع الموروث المسرحي الإنساني، والاستفادة منه وتطويعه بما يتماشى مع متطلبات الثقافة العربية المعاصرة، دون التفريط في الإرث الفُرْجوي العريق. ومن أبرز مناصري الدعوة الأولى محمد يوسف نجم الذي كان كتابه الموسوم المسرحية في الأدب العربي الحديث (1847-1914) بمثابة أورغانوم لأجيال من المسرحيين العرب:
المسرح بمعناه الاصطلاحي الدقيق، فن جديد، ولج باب حضارتنا في النهضة الحديثة، التي أعقبت الحملة الفرنسية على مصر. وإذا أردنا الحديث عن المسرح، كفن له أصوله وأدبه، فعلينا أن نسقط من حديثنا، ألوان الملاهي الشعبية، التي قد تحوي مشابه من هذا الفن ولكنها تختلف عنه اختلافًا كبيرًا. إذ لا بد من التحديد الدقيق، الذي يهيئ لنا تمييز هذا الفن عن غيره من ألوان التسلية الشعبية، كخيال الظل والقره قوز وأعمال المقلدين والشعراء الشعبيين؛ فمثل هذه الألوان، لا تندرج في سجل هذا الفن، وإن حوت بعض عناصره الشكلية[37].
من الواضح، إذن، أن موقف محمد يوسف نجم ينتصر للإبدال المسرحي الغربي بوصفه النموذج الذي ينبغي على العرب اتباعه.
وأما الدعوة الثانية، فقد كانت ولا تزال تشكِّل عصب البحث عن أنجع سبل المصالحة مع الوجدان الفُرْجوي العربي منذ نكسة حزيران 1967 إلى اليوم. ومن أبرز دعاة العودة إلى أصول الفُرْجة العربية الإسلامية: علي الراعي، يوسف إدريس، قاسم محمد، وعبد الكريم برشيد. وفي هذا الصدد، يقول علي الراعي: "يمكن القول –بكثير من الوثوق- إن العرب، والشعوب الإسلامية عامة، قد عرفت أشكالًا مختلفة من المسرح ومن النشاط المسرحي لقرون طويلة قبل منتصف القرن التاسع عشر"[38]. كما أرجع الراعي فُرْجة خيال الظل إلى عهد الخليفة العباسي المأمون، ليخلص إلى أنه "علينا أن نجذر لمسرحنا هُويّة عربية حقًّا، وأن نكفّ عن النظر إليه على أنه أدب مسرحي في المحل الأول، بل نعتبره امتدادًا في الحاضر لروافد فنية أو حكائية وتمثيلية بدأت من قرون، وقوبلت بما لا تستحق من الاحتقار. روافد اعتمدت الفُرْجة أساسًا، وتوجهت إلى الشعب أولًا وأخيرًا"[39]. والحقيقة أن صدى هذه الدعوة لا يزال يتردد هنا وهناك إلى الآن، سواء في النظرية الاحتفالية، أو مقدمات نصوص المسرحي العراقي قاسم محمد، أو حتى في رسالة الشاعر والمسرحي السوداني يوسف عيدابي التي نشرها في موقع الهيئة العربية للمسرح قبيل جائحة كورونا؛ إذ قال:
كيف لنا أن نخضع أرواحنا وأنفسنا وأجسادنا إلى مركزية أوروبية مغايرة؟ فلتنظر كل نفس مسرحية في بلداننا العربية في جوهر وجودها وكيف تفصح عنه مسرحيًّا؟ سنجد أن ما هو لنا غير ما هو للآخر. إذًا فلنجوّد ما عندنا في حيزنا وبخصوصياتنا نحن لا بمحاكاة الآخر الذي ما قد يسحره لا يسحرنا. انظروا كيف ذهب الياباني مذهبه، وكيف ذهب الصيني مذهبه، وكيف ذهب الهندي مذهبه، بل وكيف ذهب الإفريقي مذهبه، حتى عاد المسرحي الأوروبي فأخذ عنهم ما عزّز به النسيج المسرحي الإنساني. فهل علينا الوقوف حتى تأتينا الأشكال المسرحية والصيغ، أم نتحول إلى السحرة من القدامى إلى الجُدد الذين لا يجاريهم في فنونهم من الآخر إلا أهل الكوميديا المرتجلة الإيطالية. يا أهل المسرح هل نظل نحن السابلة، نؤمن بخرافة ولّى زمانها؟![40].
تشكل الدعوتان مسارين مختلفين، ولكنهما يلتقيان في التماهي مع قطب ما ضد آخر، والارتهان بالمطلق سواء في تمظهره الشرقي أو الغربي. فالدعوة الأولى تنتصر للنموذج المسرحي الغربي بوصفه الأصل الخالص للمسرح؛ وأما الثانية فهي انتصار للثقافات الفُرْجوية العربية العريقة من حيث هي قوالبنا المسرحية الخاصة بنا.
لقد انبنت معظم المشاريع التنظيرية العربية، في محاولاتها الحثيثة للإجابة عن سؤال (أيَّ مسرح نريد؟)، على مأزق تنظيري مأسور في بديلين لا ثالث لهما، وكذلك التماهي المطلق مع الاعتقاد في امتلاك الحقيقة المطلقة، الأمر الذي يؤدي إلى التدافعات الأيديولوجية والغرور والتعصب أحيانًا. وواقع الحال أنه بعيدًا عن السردية النمطية نفسها حول ضرورة العودة الأبدية، سواء إلى الأصول العربية أم الأصول الحداثية (الأمر الذي ترتبت عنه مجموعة من الأصوليات بما فيها الأصولية الحداثية)، فإن الممارسة المسرحية العربية –على المستوى الميداني- اتجهت إلى ابتكار أشكال مغايرة عن النماذج الغربية، بالرغم من تكرار تلك النماذج بشكل مختلف. وباختصار، تقوم هذه الممارسات الديكولونيالية decolonial على ما يمكن تسميته مؤقتًا "الخبرة الحسية" aesthesis، بدلًا من الجماليات Aesthetics ؛ وهي خبرة في مواجهة دائمة مع الجماليات الحديثة وإبدالاتها المهيمنة في عقر دارها، إذ تشكِّل خيارًا للإقامة على الحدود بين الأنا/الآخر وأفقًا للتحرر من كل أنواع التمركز.
تبقى علاقةُ المسرح العربي بالمسرح الغربي، كما يذكرنا حسن المنيعي، علاقةً قسرية، فرضتها هيمنة الثقافة الغربية. ومن هنا، استشكلت قراءة المنيعي وثُلّةٌ كريمة من الباحثين العرب محاولات البحث الدؤوب عن أسمى سبل الانفلات مما أسماه "التأرجح المأساوي بين إنجازات الآخر وطرح إمكانية إثبات الذات"[41]؛ وهو تأرجح أسقط بعض المنشغلين بقضايا التنظير لهذا المسرح الممكن في حلقة تراوح -في الغالب- بين "دعوة إلى التَأوْرُب"، من جهة، و"نداءات الماضي" من جهة ثانية. وتفاعلت الممارسة المسرحية العربية، منذ نشأتها المعاصرة، مع ثقافات فُرْجوية مختلفة، ومزجت ما اعتُبر حينها محليًّا أو وطنيًّا أو عربيًّا أو أمازيغيًّا بعناصر أخرى وافدة من الغرب الآخر.
إن إمعان النظر في التدافعات التي وسمت حِراكَنا المسرحي الراهن يقودنا إلى التأمل في الفضاء الثالث (فضاء الهجنة) الذي استشرفته ممارستُنا المسرحية العربية من خلال تناسج ثقافات الأنا والآخر، لابتكار أشكال مغايرة وطرح أسئلة جديدة؛ بل الأكثر من ذلك، جاءت دعوات مبكرة إلى التناسج بين الثقافات الوطنية والاحتفاء بتنوعها الثقافي. ونستحضر -هنا- المشروع الحالم والرائد لمجموعة "الغابة والصحراء"، الذي دعا إلى سودان واحد يتسع للزنوجة والعروبة معًا في تناسج ثقافي مثمر؛ ومشروع النقد المزدوِج للمفكر المغربي عبد الكبير الخطيبي. لقد كانت رؤية الشاعر والمسرحي يوسف عيدابي المتمثلة في "مسرح لعموم السودان" رؤية استشرافية عميقة، ينبغي العودة إليها والتأمل في مقتضياتها، والأخذ بها في مشاريعنا المستقبلية، تفاديًا للانكفاء والتعصب.
وأما بالنسبة إلى الخطيبي، فإن السبيل إلى التخلص من أعباء الميتافيزيقا في شتى تمظهراتها الغربية أو العربية الإسلامية التي "دأبت على البحث عن 'الأصل' و'الحق' و'الخالص'، هو خلق 'المسيخ' و'المشوّه' و'الدخيل' لا بمعناه الأخلاقي؛ وإنما بمعناه الفني تشغيبًا على هذه الوحدة الوهمية وتشويشًا وتشويهًا... بهذا، تصير كينونة العرب لا 'الهُويّة' الموهومة وإنما 'مسيخها' و'شبيهها' المشغّب عليها؛ نعني 'فقد الهُويّة'، أي 'الغيرية' التي تجعل من الأنا غير الغير. ولن يستطيع تحقيق تلك الغاية سوى الفن والفكر المغاير"[42].
ولعل هذا التشويش، الذي يربك أوهام الوحدة والتجانس، هو مؤدَّى "الفضاء الثالث" و"الهجنة" عند هومي بابا؛ إنه تشويش وتشغيب يعكس مأزق هُويّتنا ووضعنا البَيْني في "ما بعد المستعمرة". تتطلع حداثة ما بعد الاستعمار إلى تحقيق رفض معرفي وسياسي لنسق الهيمنة الغربية، يتضمن تبني الحداثة الغربية لا من أجل استنساخها، بل تأصيلها داخل ما بعد المستعمرة. ويَعدُّ أشيل مبيمبي Achille Mbembe "ما بعد المستعمرة" أفقًا جمعيًّا بشكل فوضوي؛ لكنه يحتوي على انسجام داخلي. إنه نظام محدد من العلامات، طريقة معينة لإنتاج الشبيه. وتتميز ما بعد المستعمرة بأسلوب متميز من الارتجال السياسي وبنزوع نحو التضخم..."[43]، كما أن تساؤلاتٍ من قبيل هل توجد هُوّة غير قابلة للردم بين أفريقيا والغرب؟ غيرُ مجدية البتة.
"في الوقت الذي يظل فيه مصطلح 'مسرح المثاقفة' أو حتى 'فرجة المثاقفة' محاصرًا داخل تناقضات معيبة، يشير مفهوم 'تناسج ثقافات الفرجة' إلى تنظيرات استشرافية تروم تجاوز أفق تنظيرات 'ما بعد الاستعمار'، وذلك من خلال الانفتاح على وجهات نظر أخرى بخصوص الأداء/ الفرجة مع الأخذ بعين الاعتبار دائمًا 'النقد المزدوِج' كما طرحه الباحث المغربي خالد أمين؛ حيث انطلق أمين من فكرة عالم الاجتماع المغربي عبد الكبير الخطيبي الذي طالب بـ'سوسيولوجيا ضد الاستعمار' في العالم العربي مبنية على نقد مزدوِج: أـ تفكيك التمركز المنطقي الناتج عن المعرفة السوسيولوجية والكتابة السوسيولوجية اللتين كانتا تتكلمان باسم العالم العربي، ويغلب عليهما الطابع الغربي وأيديولوجيته المتمركزة على الذات. ب. نقد للمعرفة والكتابة السوسيولوجية اللتين أنجزتهما مختلف مجتمعات العالم العربي حول ذاتها" [44]
وعلى العكس من تيم سابل، يقدم المؤلّف والمخرج المسرحي الكويتي-البريطاني سليمان البسّام أعمالًا مسرحية فارقة من موقع عابر للحدود. فإذا ما تأملنا تعامله مع مسرح شكسبير سنجد شخصية هاملت عند البسام مكلومةً بوجع عربي مخصوص. ابتعدت مسرحية البسام الموسومة قمة هاملت أكثر فأكثر عن النص الشكسبيري الأصلي بفعل اقترابها من الإنسان العربي المترنّح بين الشرق والغرب. ويبدو أن قمة هاملت هي مشروع هاملت الثالث الذي يقوم به البسام بالقدر نفسه من العزم على نقل شكسبير إلى السياق التاريخي لغزو الكويت من قبل العراق، وحرب الخليج، والعالم العربي بعد أحداث 11 من سبتمبر، وقلقه بوصفه أنجلو-عربي في أعقاب هجمات 11 سبتمبر:
لم أكن أستطيع أن أرى هذا التغيير حتى 11 سبتمبر. ففي تداعيات الهجمات الإرهابية على مانهاتن وواشنطن العاصمة، رُسِمَت حدود بين المدن والأعراق في جميع أنحاء العالم الغربي. وأصبحت نظراتي ولغتي واسمي -بين عشية وضحاها- مصادر للاستجواب والشك. كنت مستقرًا بين ثقافتين لديهما إحساس بالهُويّة محدد بقدر ما، من خلال عدم الاندماج وعدم الانتماء مثل أي سرد موحد للقبيلة أو الثقافة أو اللغة أو التاريخ. وبدأت في صنع أوصاف مؤقتة للعالم العربي، باللغة الإنجليزية، لتقديم هذا العمل في الكويت وتونس ولندن؛ وانجذبت مرة أخرى إليه. وفي الوقت الذي قدمت فيه النسخة الأولى والمصممة بالكامل لـ"قمة هاملت" في مهرجان أدنبرة The Edinburgh Festival صيف 2002، كنتُ أعيش بالفعل في الكويت، حيث كانت قوافل الدبابات الأمريكية تصطف في التحضير للغزو/للتحرير الوشيك للعراق[45].
كما يؤكد البسام أن طريقة تعاطيه مع النص الشكسبيري لا تغفل المنظور العربي الراهن؛ إذ "تحمل المسرحية عددًا من المخاوف وتعالج قضايا العالم العربي اليوم وعلاقته بالغرب. وتوجِّه في الوقت نفسه هذه المخاوف إلى الجمهور الناطق باللغة الإنجليزية. إن بناء المسرحية العابر للثقافات يخلق شعورًا بالتأثير في شؤون الآخر"[46]. يعيد سليمان البسام كتابة نص شكسبير، ويقتطع ترتيب المشاهد ويعيدها، ويقلل من عدد الممثلين إلى عدد محدود من المؤدين الرئيسيين، ويضخّ في نصه مزيدًا من الدنيوية المرتبطة بالظروف العربية المعاصرة. ويصبح الفضاء الزمكاني لـ قمة هاملت انعكاسًا ساخرًا للأوضاع السياسية التي تتخبّط فيها منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث تُمزَج الوحشية المفرطة والفكاهة العالية. وفي وقت لاحق من المسرحية، ستُحوَّل إلى غرفة حرب.
تتخذ المسرحية شكل قمة حكومية مع ست طاولات اجتماعات وميكروفونات مثبتة ولافتات أسماء تواجه الجمهور. كما تتميز باستخدام الوسائطية intermediality، وتتحدى الأشكال الدراماتورجية التقليدية السائدة في العالم العربي، إذ تسمح بظهور مواقع جديدة للمشاهد، الأمر الذي يوسع حدود العالم الجمالي؛ ذلك أن البعد السياسي في قمة هاملت لا يكمن فقط في القضايا الساخنة للمشروع المتعلقة بشبح الحرب في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وإنما يكمن أيضًا -وهذا هو الأهم- في الثورة على الأشكال المسرحية التقليدية، وإعادة النظر في صيرورات الممارسة المسرحية وتغيير العلاقة مع الجمهور. إن التداخل بين ما يقع فوق الركح وما يشاهد على الشاشة المثبتة في خلفية الخشبة هو أكثر من مجرد قطيعة مع الدراما التقليدية ونغماتها النصية؛ لأن الوسائطية تشير إلى تحول في المنظور النقدي أكثر انسجامًا مع ثقافات شبكة الإنترنت. ويمكن بالكاد أن تخضع الدراماتورجيا البصرية وتدفقات الصور المعروضة للنص المنطوق. فالاختلافات بين الحضور الحي للممثلين في قمة هاملت ونسخهم المسجلة والمعروضة بشكل مباشر على الشاشة، تربك حسابات المتلقي وتستفزّ طمأنينته المعتادة وهو يشاهد عرضًا مسرحيًّا. ومع ذلك، فإن هذا "التغيير في الإدراك"، على حد تعبير إريكا فيشر ليشته "لا يقلل من جودة الفُرْجة الحية، ناهيك عن إلغائها، بل يؤكد حقيقة أن الأداء الحي والأداء الموسَّط لا يختلف بعضهما عن بعض"[47].
ولعل الغرض من استخدام البسام للوسائطية هو التفكير بشكل نقدي في ثقافة الوسائط، رغبةً منه في محاولة تفكيك عرض الواقع من خلال واقع العرض، وبخاصة أثناء أوقات الحرب. ويخلق تدخل وتداخل الوسائط المختلفة على خشبة البسام توترًا في إدراك الجسد المادي للمتحدث/المؤدي وتمثيله الثنائي الأبعاد على كل من الشاشة والخشبة. كما يخلق التمثيل الافتراضي المتزامن للفنان على المسرح وعلى الشاشة (وبخاصة في المشهد الأول) وَهْم المؤدي وصورته، حيث يلفت الانتباهَ هذا التفاوتُ إلى الجسم الفعلي للفنان والدور الجمالي الذي يؤديه، والمتناقض مع لامادية صور أدائه التي تُعرَض على الشاشة لأدائه. فلا يُظهِر افتتاحُ العرض أي استمالة للزمانية بعد الخطية؛ إذ يتميز ما هو معروض على الشاشة بفورية زمنية وتزامن لكل من الحدث وتلقيه، ويحدث خطاب المؤدي في الوقت المحدد لعرضه.
تدفع ثلاثية شكسبير العربية لسليمان البسام آفاق التجريب المسرحي إلى أقصى حد، مع التركيز بخاصة على الرقص على حد السيف dancing over hyphens : الغرب/الشرق، والتفكير العابر للحدود/النقد المزدوِج بوصفها أشكالًا من التناسج. وغالبًا ما تُستخدَم الواصلة hyphen لربط وفصل البدائل أو الكلمات التي تدل على وظيفة مزدوِجة. فهي تربط وتفصل، توحِّد وتفصل، تتوافق وتتنافس. وللواصلة في مسرح البسام وظيفة الربط، وفي الوقت نفسه تحرِّض على المنافسة ليس في ما يتعلق بلغة المسرح فقط، وإنما بسياسات الهُويّة أيضًا. وتتضمن الواصلة أيضًا تداخلًا أساسيًّا بين اللغات والطرائق المختلفة، وتسمح للراقص بالاستفادة من "الإمكانات المعرفية" للطرق الجديدة من السكن في العالم عبر الإقامة على الحدود بين الشرق والغرب والسامية واللاتينية. وتسلط مثل هذه الواصلة الضوء، أيضًا، على ما يسميه الخطيبي "الحوارية التجويفية" un entretien en abyme بوصفها ممارسة للترجمة الدائمة. حتى مسرح سابابSabab Theater ، وهي فرقة مسرح البسام، تقاوم الثبات، فعلى الرغم من "عدم الاحتفاظ بعنوان ثابت، كانت قادرةً على العمل عبر الحدود الوطنية واللغوية والثقافية بطريقة حرة ومستقلة"[48]، ووسيلة للتعبير الخلاق، فإن الفضاء الثالث "يخلق علامات جديدة للهُويّة، ومواقع مبتكرة للتعاون والتنافس"[49]؛ هذا الانفتاح على وجه التحديد هو الذي يجعل النقد دعوة عاجلة إلى تجاوز القطبية في الشرق/الغرب في بيئة عالمية. إن النقد المزدوِج حصيلة الجينالوجيا التعددية، حيث يعرض أحدهم مواجهته للذات والآخر، وللشرق والغرب. ويتعلق السؤال هنا على نحو قوي بتهجير المنفى في أي محاولة لإعادة إنسان ما بعد الاستعمار إلى إنسانيته. فيصبح "النقد المزدوِج" عند هذا التقاطع تفكيرًا حدوديًّا كما يقول مينيولو، نظرًا إلى أنه ينتقد كلًّا من الأصولية الغربية والإسلامية، ويعني التفكير انطلاقًا من كلا التقليدين، وفي الوقت نفسه التحرر منهما معًا. وهذا التفكير الحدودي والنقد المزدوِج شرطان ضروريان لأي "تفكير آخر"[50].
كما أن مسرحيّته الموسومة بـ أور تعبر على واقع عربي مرير جرّاء الدمار والحروب في العراق والشام. وهي المسرحية التي قدمها في مهرجان "أيام قرطاج" في دورته عام 2018، وكانت إنتاجًا مشتركًا بين رزيدنزثياتر Residenztheater بألمانيا، ومسرح سَبَب (الموسوم بالترحال)، والصندوق العربي للثقافة والفنون (آفاق). سافر بنا البسام عبر الأزمنة والأمكنة بفريق متعدد الجنسيات واللغات منذ الدمار الأول الذي لحق مدينة "أور" عام 2000 قبل الميلاد إلى أن حطّ بنا على مشارف سنة 2035 في رؤية استشرافية لمآلات السلطة والسياسة في عالمنا العربي. ولعل أهم ما يميز سليمان البسام هو رؤيته الإخراجية الآسِرة وشغفه بقضايا العالم العربي وتمكُّنه من إواليات الصناعة المسرحية لدى الغرب. كما أن عروضه تقدم في أكثر من بلد عربي... وهو، في نظري، يمثل فلسفة التناسج في أبهى تجلياتها؛ إنه مبدع عابر للحدود.
أما انسوا هاملت للكاتب المسرحي العراقي والمخرج جواد الأسدي، فهي إعادة كتابة لشكسبير مشحونة سياسيًا. وصف الأسدي المسرحية بأنها إعادة كتابة تقويضية لمسرحية هاملت الشكسبيرية. وقد عُرِضت عام 1994 في مسرح الهناجر بالقاهرة Hanager Theatre. ينطلق الأسدي- وهو من مواليد 1947، ونُفي منذ فترة طويلة من العراق- من "حبكة شكسبير لجعل أوفيليا شاهدًا على مقتل كلوديوس للملك الأب من خلال نافذتها. وحتى عندما تصبح أوفيليا مركز الاهتمام في المسرحية، تكون غيرَ قادرة على اتخاذ أي إجراء فعال ضد عهد كلوديوس المرعب"[51]. يحضر صدام حسين بوصفه خلفية تمثيل كلوديوس في المسرحية، ويشار إليه باسم "الجزار" و"البربري" و"الثور" و"الغاشم". ويكتب الأسدي في مقدمة مسرحيته: "في انسوا هاملت، كنتُ أرغب في الكشف عن شخصيات على حافة الجنون وفتح باب النص لرغباتهم وكراهيتهم المؤجلة، لمواجهة كلوديوس البربري في الدولة الذي ابتلع شقيقه وأخته دفعة واحدة، فقط لإرسال الأول إلى حفّاري القبور والأخير إلى فراشه"[52]. يحافظ مشروع الأسدي على الجزء الأكبر من قصة هاملت، على حين يغير التركيز على شخصيات معينة، ويسلط الضوء على المأزق التراجيدي للآخرين. كلوديوس هو مركز التراجيديا لدى الأسدي. إنه الشر الحقيقي الذي يجب القضاء عليه.
كيف يمكن إنصاف تجاربنا المسرحية العربية المعاصرة البديلة، على قلّتها، لكن من منظور التفكير العابر للحدود المبني على الاستيعاب والتجاوز عِوَض التكرار والإسقاطات التعسفية؟ سؤال يحتاج منا إلى كثير من المتابعة والإنصات إلى نبض جسدنا المسرحي والأدائي المعاصر والقليل من التواضع. ولا أدعي الإجابة عن هذا السؤال، لكنني في المقابل ألفت الانتباه إلى أن ممارسات الجيل الجديد من مسرحيينا تسبح في أفق بَيْني ليس ببعيد عن هذه الأسئلة. علينا أن نمعن التأمل في هذه الممارسات علّها توجِّهنا. وإذا ما تأملنا في إعادة استحضار اللحظة الرابسودية في مسارحنا العربية (لأننا أولى بها لما تزخر به ذاكرتنا الفُرْجوية من تنوع العروض الحكواتية وثرائها)، سنجد أن شخصيات مسرحية دموع بالكحول (نص عصام اليوسفي، وإخراج أسماء هوري، إبداع مسرح أنفاس من المغرب 2013) هي، في الواقع، شخصيات مُجوقة choralisés، وذلك لكونها تشهد على الحدث وتتأمله. وهكذا تنتصر المخرجة المغربية أسماء هوري للشكل الرابسودي الذي ينبني على جدلية التفكيك وإعادة البناء حتى على مستوى الممثل/المؤدي. كما أنها تقذف بشخوصها لتشارك في الحدث، وتصبح شاهدةً عليه في الوقت نفسه. وفي هذا السياق، يذكرنا جان بيير سرزاك Jean-Pierre Sarrazac بأن "الموضوع الرابسودي يتميز عن الموضوع الملحمي من حيث كونه موضوعًا منشطرًا clivé ؛ أي لأنه في الوقت نفسه درامي وملحمي، وشخصية مشاركة في الحدث وشاهدة عليه"[53].
تندرج دموع بالكحول ضمن التجارب المغربية المعاصرة التي تسعى إلى تغيير تدريجي للأشكال الدراماتورجية السائدة في المغرب. وهي إيذان بكون الحراك المسرحي مرتبطًا ارتباطًا قويًّا بالمجال العمومي. يبدأ العرض بكوريغرافيا في حدها الأدنى minimalist تعكس مدى تصدع "الشخصيات" الأربع (صوفيا/ نورة/ أحمد/ ندى)، التي قُذِف بها إلى الوجود في عالم شديد الانغلاق والانكفاء غير المحتمل؛ ولم يتبقَ لها سوى البوح والدموع لارتياد أفق المصالحة مع الذات، أولًا، ومع الآخر، بعد ذلك: "دموع صوفيا ونورة وأحمد وندى". ويذكرنا كاتب المسرحية عصام اليوسفي بأن الشخصيات "ليست حزينة وتراجيدية، بل ثورية وشاعرية ولكنها في الوقت نفسه نابعة من حياتنا العادية... كل شخصية من هؤلاء تعيش أزمة ممتدة في الزمن يتداخل فيها العاطفي بالاجتماعي والمهني بالسياسي... كل رغبة هي مرآب لرغبات متعددة تتجلى وتختفي لتتجلى مرة ثانية وثالثة بألوان ونبرات حادة تارة وخافتة أخرى..."[54].
لقد اعتمد اليوسفي منطق الانفصال داخل النص بوصفه خيارًا إستراتيجيًّا، عبر تقطيعه إلى أربعة مسارات متداخلة فيما بينها، برغم أن كل واحد منها خاضع لمنطق شخصية محددة، أو بالأحرى ظلِّ شخصية جدّ قريبة منا، من خلال حراكها اليومي. ومع ذلك، لا يفضي هذا الانفصال إلى تصدع الخطاب المسرحي برمته، ولا يربك بشكل نهائي ذلك "الوصل" أو الرابط الذي يؤدي إلى بلوغ المعنى بعد تجميع كل المجزوءات أو المتواليات المنفصلة عن بعضها بعضًا. وبإمكاننا تلمس مسار صوفيا ومعاناتها مع عشيقها الأناني أحمد، ومسار ندى ومعاناتها مع زواج فاشل، ومسار نورة المناضلة والعاشقة الحالمة والمحبطة، ومسار الطبيب والسياسي أحمد الصنهاجي التائه بين الحزب والعمل والعائلة والعشيقة.
ولذلك، يمكن القول إن النص يسعى بشكل مكثف إلى إبراز تصدع الذات، و"البحث في أسلوب يقتنص ويحتضن كل ما هو منفلت في ثنايا الذات"[55]. ومع ذلك، تبقى الشذرة متجلية في البناء الدراماتورجي للنص الذي يتشكل بمنأى عن تنامي الحبكة وتطورها، من حيث هي سلسلة من الأحداث المرتبطة فيما بينها، برغم وجود تقاطعات بين المآزق الأربعة التي تتخبط فيها الشخوص. ومن جهة أخرى، ونظرًا إلى تشابه مصائر أو معاناة الشخصيات الأربع، فقد أصبحت كل واحدة منها تعكس صورة الأخرى. ووظفت المخرجة أسماء الهوري بذكاء هذا الوصل بين الشخصيات أثناء توظيفها للجوقة.
ولعل هذا الارتباط القوي، على وجه التحديد، هو ما دفع اليوسفي إلى اعتماد خيار "المونولوغ التذكري" بوصفه نقطة تقاطع بين "المونولوغ السّير ذاتي والقصّ التذكري". ومن المهم في هذا المقام الإشارة إلى كون العودة إلى "المونولوغ" و"الجوقة" في الدراماتورجيا المعاصرة تكتسي دلالات عميقة. يعود استعمال المونولوغ إلى المسرح الكلاسيكي. وهو وسيلة الكاتب الدرامي للكشف عن اضطرابات الشخصية، وأحاسيسها، وحالاتها النفسية، ونواياها وهي تفكر بصوت مرتفع، صوت مسموع لدى الجمهور. والحاصل أن النقد المسرحي لم يطور آلياته النظرية والنقدية في اتجاه التعاطي مع هذه الظاهرة، كما هو شأن النقد الروائي وبخاصة مع جينيت وكون (Genette, 1972; Cohn, 1981). ويقول باتريس بافيس في السياق ذاته: "نحن إذن في مرحلة ما بعد السرد الدراماتورجي. في ذات السياق، نسجل من داخل الكتابة الدرامية المعاصرة منذ 1990 عودةً إلى السرد، والحكي، ومتعة سرد القصص. ومع ذلك، فإن الدراماتورجيا، سواء كانت كلاسيكية، أو ما بعد كلاسيكية، لا تمتحِ تقريبًا أبدًا من النظريات ما بعد الكلاسيكية لعلم السرد، تاركةً مع الأسف هذا العلم السائر في طريق التجديد في الظل"[56]. وفي السياق ذاته، يقر هانس تييس ليمان Hans-Thies Lehmann بأن مبدأ السرد قد أصبح من أهم مرتكزات مسرح ما بعد الدراما، "ذلك أن المسرح أصبح بؤرة للفعل السردي"[57].
وفي الواقع، ما يميز بعض أحدث العروض المسرحية العربية المعاصرة هو الميل نحو نوع من التفكير التشاركي الناتج عن الرغبة في الوصول إلى تحقيق أبعد ما يمكن تصوره على مستوى عروض الفُرْجة، إذ نجد أنفسنا مدعويين إلى أن نصبح فنانين مشاركين في إنتاج الفُرْجة، بدلًا من مستهلكين سلبيين لها. وهذا التجريب، أو الإبداع المسرحي العربي العابر للحدود جدّ واضح من خلال مسرحيات عظيمة مثل بيوخرافيا للفنانيَن اللبنانيَين لينا مجدلاني وربيع مروة. وتصبّ تجربة مجدلاني ومروة في صميم هذا الانفلات الذي يُنعَت أحيانًا بـ"اللا مسرح" أو "ضد مسرح". إنها ليست حالة شرود في المشهد المسرحي العربي، ولكنها حساسية فنية حققت تراكمًا كيفيًّا ونوعيًّا يستحق منا كل العناية والاهتمام، مثلها في ذلك مثل حساسيات مماثلة في العديد من البلدان العربية. وإنّ حضور هذه التجربة الرائدة في مهرجانات دولية مثل مهرجان طوكيو، وبرلين، وفيينا، وباريس، وأفنيون، وبروكسيل، والقاهرة، لَخير دليل على قيمتها الفنية الرفيعة. ومنذ عام 1997، حين أعلن ربيع مروة في بيانه الشهير عن القطيعة مع تجربة الحكواتي[58]، رفقة المسرحي الرائد روجي عسّاف، اتجه ربيع مروة صوب صناعة فُرْجات ومحاضرات أدائية يصعب تصنيفها، نظرًا إلى زئبقيتها ولعبيّتها وهُجْنتها وانفلاتها من قبضة التصنيفات المعهودة في عوالم المسرح العربي. ومن المؤكد أن انعطافة ربيع مروة مبعثها رفضه للخطابات الحداثوية الزائفة، ولكن الأهم من هذا كله هو رغبته في استشراف آفاق إبداعية مغايرة لمسرح الحكواتي. وهذه المغايرة لا تعني التخلي عن الحكاية بشكل مطلق، بل ابتكار طرائق جديدة للحكي.
وأُمثّل لهذه التجربة الفريدة بعرض بيوخرافيا (سنة 2002). وهو عبارة عن مسرحية/لا مسرحية استفزازية غير خاضعة للتصنيف (كتبها وأخرجها ربيع مروة ولينا مجدلاني، وشخّصتها لينا). تقف الممثلة لينا خلف شاشة شفافة تستمع وتتفاعل مع صوت مسجل على شكل سؤال/جواب، ثم يبدأ حوار بين الصوت النسائي المسجل ولينا حول مسارها الفني. بيوخرافيا لا تروي، بل تسائل حياة فنانة لبنانية من مواليد 1966، عاشت أطوارًا مهمة من تاريخ لبنان المعاصر. فبالإضافة إلى قراءة موجز السيرة الفنية للينا، يستفز الصوت الفنانة بمجموعة من الأسئلة القلقة لتتحول اللحظات الأولى من العرض إلى محاكمة أمام الجمهور، محاكمة النوع المسرحي أو "اللا مسرحي" الذي تنتصر له الفنانة لينا مجدلاني. وهنا على وجه التحديد، تواجه لينا خصومها: "العدو يتهمنا بأننا استفزازيين وصداميين متأثرين بالغرب، ذهنيين، شكلانيين، ما فيه قصة، ما فيه ممثل..."[59]. والحاصل أن هذه الاتهامات أصبحت جزءًا لا يتجزأ من منظومة لينا المسرحية المنفلتة عن السائد. تتحول لينا بعد هذا الحراك إلى متفرج فوق الركح تشاهد تسجيلًا لها بالصوت والصورة على الشاشة. وتكمن ماهية العرض في صدمة التجاوز، تجاوز كل الحدود بين الأجناس الفنية، وكذلك تجاوز الحدود بين العام والخاص، السياسي والأخلاقي.
كما يمكن التمثيل للظاهرة بأداء فيديوVideo Performance لربيع مروة (2004) بعنوان عن ثلاث ملصقات On Three Posters. تقوم فُرْجة أداء فيديو على إعادة تركيب وتحليل عمل سابق يحمل عنوان ثلاث ملصقات Three Posters أنجزه كل من ربيع مروة والفنان اللبناني إلياس خوري سنة 2000. تتمحور الفُرْجة حول التسجيل الذي خلفه شهيد شيوعي لبناني بعد استشهاده. وبيت القصيد في هذا التسجيل هو أنه عثر على نسختين أخريين بالإضافة إلى النسخة التي تداولتها وسائل الإعلام آنذاك. ففي النسختين، يبدو الشهيد متوترًا ومترددًا؛ إنه إنسان قبل أن يكون شهيدًا. وهذا ما يجعل كلمة "شهيد" كلمة جدّ صعبة في النطق والتمثل. يستحضر ربيع ثلاث محطات: المحطة الأولى تتعلق بالممثل، إذ يلعب ربيع مروة دور الشهيد خالد رحّال؛ مع العلم أن جمهور بيروت يعرف الفنان ربيع بوصفه مخرجًا وممثلًا. وفجأةً، يتخلى عن دور الشهيد، ويتحدث عن نفسه بوصفه "ربيع" الإنسان والفنان أمام الجمهور، مع وجود شاشة في الأعلى واستمرار بثّ الشهادة الأصلية للشهيد. والحاصل أنه في ظل وجود ثلاث نسخ من الشهادة، يستحيل الحديث عن الأصل والنسخة. في هذه اللحظة من الفُرْجة، يُسائل المتلقي حدود العلاقة بين الحضور والتمثيل، الأصل والنسخة، الحقيقة والخيال. وأما المحطة الثانية من أداء الفيديو فتبرز أداءَ الشهيد الذي حاول تقمص الدور، ولكنه بدا وكأنه خائف من الكاميرا بدل الخوف من الموت، وهنا على وجه التحديد أصبح الفيديو الوثيقة الأهم في تَرِكَتِه. ففعل الاستشهاد بدأ في اللحظة ذاتها التي واجه فيها الكاميرا، حيث أصبح الفيديو صورتَه الأخيرة، آخر وثيقة يمكن أن تتجاوز موته. وبالفعل، فمن خلال الإعادة يتمكن الشهيد من إبراز رغبته في نشر خبر موته من جهة، وانسحابه من المشهد من جهة أخرى. وتحكي اللحظة الأخيرة عن الرجل الثالث في الفُرْجة، ألا وهو السياسي زعيم الحزب الشيوعي اللبناني الذي قبل أن يوثِّق الحوار معه من خلال فيديو كاميرا. فبالإضافة إلى خرق الهُوّة بين الأجناس والأساليب الفنية، دفع ربيع مروة جمهوره إلى التساؤل عن حدود العلاقة بين الحضور المباشر وضِعْفه المُمثَّل من خلال وسيط الفيديو.
يطرح ربيع مروة الأسئلة نفسها في وجه أ وجه ب (2001)، وهو اشتغال فني عصي على التصنيف أيضًا، إذ يراوح بين الفيلم التسجيلي والتجهيز الفيلمي والقصيدة السينمائية وفن الأداء. يستنطق ربيع ذاكرة الطفولة من خلال الصور منذ أن كان عمره 12 سنة، إلى أن هاجر إلى الجنوب إبان حرب 1975، وصور القصف العشوائي لسنة 1989، حتى أوصلنا إلى معزوفة باي ذي ريفرز أوف بابيلون By the Rivers of Babylon، وهي لحظة جمع الصوت والصورة، حيث يظهر ربيع مروة الراوي والشاهد على العصر مرتين: الأولى، لتأكيد التئام الصوت والصورة؛ والثانية، حين يجلس ويتكلم ولا نسمع شيئًا.
ويبقى مَن يخاف التمثيل؟ (إنتاج سنة 2005) أهم إنجاز للفنان ربيع مروة. بنزوع تقليلي[60] minimalist يذكرنا بفن الأداء، اعتمد ربيع مروة خشبةً شبه فارغة أثثها فقط بكرسي، وكتاب، وشاشة، وكاميراتين: الأولى في خلفية الخشبة تصور تحركات لينا في مقدمة الخشبة، والثانية خلف الجمهور. تروي لينا مجدلاني قصاصاتٍ من بعض أعنف وأروع عروض فن الأداء الغربية وأكثرها دمويةً ومازوشيةً مثل: مارينا أبراموفيك Marina Abramović التي أحدثت جرحًا في بطنها وهي ترسم نجمة أمام الجمهور، أو كريس بوردن Chris Burden وستيلارك Stelarc ، وردولف شفارزكوجلر Rudolf Schwarzkogler وآخرين. يتميز كل هؤلاء بممارسة عنف حقيقي ومباشر، من دون ادعاء ووَهْمٍ، على جسد المؤدي حتى داخل الفضاء الفُرْجوي. وفي الآن نفسه، يقوم ربيع مروة برواية قصة "حسن مأمون" منفِّذ المجزرة الجماعية المعروفة في لبنان بـ"مجزرة اليونسكو"[61]. لقد نجح العرض في تأزيم مفهوم التمثيل، من خلال المزج بين البثّ المباشر لحركات لينا من جهة، والجمهور من جهة أخرى (مع فرق دقيقة)، وقراءة المقتطفات، ورواية حسن مأمون. وقد دفع هذا العرض المتلقي إلى المقارنة بين العنف الرمزي الممارَس في نماذج معينة من فن الأداء والعنف الدموي في بيروت. الأول سُجِّل في تاريخ الفن المعاصر والذاكرة الإنسانية الجمعية، وارتقى أصحابه إلى طلائع الفنانين الكبار؛ أما الثاني فقد توارى مع توالي الأحداث ليقبع في ذاكرة النسيان.
كذلك مستجدات الخطاب المسرحي المعاصر وما يحمله من مساءلات تستفز الإبدالات القائمة على المستوى الكوني قد وجدت صداها هنا في عالمنا العربي. فالتأمل في العروض العربية المعاصرة التي تعتمد الكتابة الجماعية تحت كشافات الضوء، بعيدًا عن سلطوية النص الدرامي، وسلطوية المخرج الذي يفرض قراءة أحادية للنص، يؤكد مدى انخراط الحساسيات المسرحية العربية الجديدة في النقاشات الدولية: ما بعد الدراما، الرابسوديا، الوسائطية. ومن بين هذه العروض التي تحتفي بالجسد الفُرْجوي: عرض بين بين للمسرحي المغربي محمود الشاهدي، ونايضة لأمين ناسور، وجي بي إس لمحمد شرشال وشاطارا للمغربي أمين ناسور (وهو العرض الذي تُوِّج في مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي والمعاصر 2022)؛ فهي عروض تعبّر عن الحساسيات الجديدة في المسرح العربي رفقة شباب منفتح على أسئلة المسرح في عالمنا المعاصر، مع إبراز خصوصية ثقافات الفُرْجة العربية والانفتاح على هوامشها المحايثة بعيدًا عن الجوهرانية والانكفاء؛ إنها عروض تستفز الثنائيات من خلال إبرازها فقط لتفكيك مضامينها وتقويض بنيات التفكير الثاوية تحتها؛ عروض لا ينفع معها التوسل بآليات التحليل الدراماتورجي البافيسية، وذلك لاعتمادها الكتابة الشذرية شكلًا ومضمونًا واستشكالها للسميوزيس المسرحي المعتاد والميثوس الأرسطي؛ عروض تستفز الحبكة والحدوتة، كما تستفز اللغات المسرحية المعتادة في مسارحنا من خلال استشكال وظائفها؛ عروض تتأسس على دَمَقرطة الكتابة الركحية: يصبح فيها النص الدرامي مجرد مكون ضمن بقية المكونات الأخرى؛ عروض تنزاح حتى على معالم "الريجي تياتر" أو "مسرح المخرج" من خلال اعتمادها على التوليف الجماعي؛ عروض تعتمد المؤدي عِوَض الممثل الذي يتقمص الدور، والمؤدي شخصية تناصية بامتياز تجمع بين شخصية المؤدي والدور أو الأدوار؛ عروض تعتمد أسلوبًا ما بعد دراميًّا postdramatic (وليس من الضروري أن يكون العرض ما بعد دراميًّا) من خلال تقويض سُلَط الكاتب والمخرج ووضعها في الدرجة نفسها مع سلطة المؤدي والسينوغراف والموسيقي والكوريغراف والمتلقي، واعتماد دراماتورجيا بصرية موازية، والمايكروفون كوسيط، والموسيقى الحية التي تبلور دراماتورجيات ركحية خاصة بها فوق الخشبة، انطلاقًا من حوار خلاق بين الآلات الموسيقية وبقية المكونات؛ إنها عروض تعتمد الجسدانية لذاتها، تعتمد حالةَ الامتلاء فوق الخشبة من حيث هي أسلوب ما بعد درامي، ومن تأثيراتها تشتُّت في الرؤية لدى المتلقي وتوسيع مجال الشذرة التي تستفز مدلول العلامات المسرحية (وهو أمر مقصود). ومع ذلك، استمعنا أثناء مناقشة عرض بين بين في مهرجان المسرح العربي (الدورة السابعة، الرباط 10-16 يناير 2015) إلى الكثير من سوء الفَهْم وسوء القراءة وسوء الحوصلة. والعلّة في ذلك هو أن البعض منّا قارب بين بين وبقية العروض المنتمية إلى الحساسيات الجديدة من منظور التحليل الدراماتورجي السجين ضمن منظومة الدرامي والملحمي، والحاصل أن آليات اشتغال العلامة المسرحية هنا خارجة عن النسق الدرامي المعهود، بل حتى الملحمي البريشتي، لذلك ينبغي البحث عن معجم آخر للتعاطي معها عِوَض القذف بها وفيها في خارج مطلق. وهذه العروض بالنسبة إلينا تجسد "حراكًا مسرحيًّا جديدًا" مثل ذلك الذي دعا إليه سمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي في كلمته، في الاجتماع الثالث والثلاثين للهيئة العلمية للمسرح في 19 سبتمبر 2011 في شيامين، الصين.[62] فلننصت إلى أسئلة الجيل الجديد من دون تعصب ولا تشنُّج لأنهم امتدادنا في الوجود.
هل يمكن تشكيل معالم نظرية مسرحية عربية بمعزل عن الاحتكاك مع المسرح الغربي ومواجهة "التاريخ المحلي الغربي"؟ إن تاريخ المسرح الغربي -وبداياته الإغريقية المزعومة- هو مجرد سرد أوروبي محلي جرى تسويقه على أساس أنه كوني على حساب سرود أخرى وبدايات أخرى. فلنمعن النظر قليلًا في "التفكير العابر للحدود"، بوصفه الإبستيمولوجيا الضرورية لمواجهة سلطة الحالة الاستعمارية. وباختصار، لا يمكن لمسرحنا أن يتطور بمعزل عن الاحتكاك مع الآخر ومواجهة النموذج المحلي الغربي، من خلال إبداع تفكير عابر للحدود: "يظل التفكير العابر للحدود"، حسب وولتر مينيولو، "الإبستيمولوجيا الضرورية للانفكاك وإزاحة الحالة الاستعمارية عن المعرفة. ومن ثمَّ، بناء تواريخ محلية ممانعة تعيد الكرامة للملايين من الناس الذين سلبتهم إياها الفكرة الغربية للتاريخ الكوني"[63].
ومن بين الخيارات الديكولونيالية المتاحة على مستوى الإبداع المسرحي العربي الراهن خيارُ المصالحة مع وجدان الفُرْجة المحلي من جهة، ووضعه في مواجهة دائمة مع الإبدالات المسرحية الغربية، من جهة أخرى. يبرز هذا النوع من الاحتكاك والخبرة الحسية aesthesis لدى جسد مؤدٍّ مقيم على الحدود بين حساسيات فُرْجوية/أدائية تنتمي إلى الشرق والغرب، وهو (أي الاحتكاك) يستشرف آفاق فكّ الارتباط مع النماذج الأدائية المحلية والأدائيات الغربية من دون الوقوع مجددًا في مآزق "الاختلاف المتوحش". وتُعد الخبرة الحسية aesthesis مجالًا لإبراز الحساسيات المسرحية/الأدائية المغايرة، وتقتضي ضمنيًّا تفكيرًا/إبداعًا عابرًا للحدود عبر التعاطي مع الإبدالين معاً (الغربي والشرقي)، وفي الآن نفسه، إبداع أفق مغاير ومختلف عن كل منهما. ما الذي يبهر الجمهور الألماني، على سبيل المثال، عند مشاهدتهم العروض الأدائية لفنان الأداء اللبناني ربيع مروة؟ أليست قوة الأداء الذي يجمع بين آليات الحكواتي الشرقية والأساليب ما بعد الدرامية التي تزخر بها الساحة المسرحية البرلينية؟ ما الذي يدفع الجمهور الأوروبي إلى التهافت على عروض الكوريوغراف البلجيكي-المغربي سيدي العربي الشرقاوي؟ أليست تلك الخبرة الحسية التي يتمتع بها الشرقاوي وهو يجمع بين الشرق والغرب؟ ما الذي يضحك الفرنسيين والكنديين أثناء مشاهدتهم الكوميديَين المغربيَين جمال الدبوز أو كاد المالح؟ أليست تلك النظرة الثاقبة العابرة للحدود، التي تنظر إلى الثقافة الفرنسية، مثلًا، من منظور "تامغربيت" (ما يميز الثقافة المغربية) وإلى "تامغربيت" أيضًا من على الحوافّ الفرنسية؟ فتكون المحصلة هي إبداع مختلف يستمد قوته من موقعه البيني المقيم على الحدود.
كما يدفعنا التفكير العابر للحدود/النقد المزدوِج إلى التأمل في مقتضيات التهجين المعرفي epistemological creolization بوصفه رقصًا على تخوم البَيْنية. لقد غيّر هذا النوع من التفكير شروط الحوار بين الشرق والغرب. وبرغم استلهام جزء يسير منه من دريدا Derrida وفوكو Foucault، فإن الاختلافات واضحة أيضًا؛ فالتفكيك نقد تقاربي ينتقد المركزية الغربية من الداخل، على حين يتموقع التفكير العابر للحدود/النقد المزدوِج في التخوم الفاصلة/الواصلة بين الحالة الاستعمارية وإزاحتها. ولأن النظريات في ترحال مستمر، فهي تخضع أيضًا لتحولات جوهرية أثناء سيرورة ترحالها بين الأمكنة والأزمنة. ولذا، من الوهم الاعتقاد بأن التفكير العابر للحدود/النقد المزدوِج مجرد تكرار لمقولات ونماذج من التفكيك، ذلك أن صيغة التكرار هاته تخون النموذج في عدم تشابهها معه. إنه تكرار متجدد. وكما يذكرنا عبد السلام بن عبد العالي قائلًا: "التكرار الذي يفتح المعنى على ما هو غريب عنه"[64].
ولذلك نلفت الانتباه إلى أن تصورنا لتناسج ثقافات الفُرْجة مقترن بالنقد المزدوِج/التفكير العابر للحدود. وهما معًا أفقان لمحو المركزية الغربية من دون السقوط في مطبات جوهرانية أخرى، الأمر الذي يقتضي التئام الإرادات الحية من نقاد ومسرحيـين في "الجنوب الممانع" للانفـكاك من قيود الحالة الاسـتعمارية أو الليبرالية الجديدة ومـَن يدعمهـا في الجنـوب. لسنا مـن دعـاة "التـَأوْرُب" ولا "الإغـراب في الماضي"، بل عابـرون فقـط في ظـل إقامتنا عـلى الحدود، وهـي إقامة محفوفة بالمخاطـر.
لقد أصبح النموذج الإرشادي الموسوم بـ"مسرح المثاقفة" عقبةً إبستيمولوجية أمام التطور المتسارع الذي يقع في المشهد المسرحي على المستوى الكوني بفعل سيرورات التلقي المنتج. وهكذا، يمكن عَدُّ مشروع التناسج مشروعًا مراجعاتيًّا منفتحًا على أصوات العالم. إنه أفق مغاير يسعى إلى إعادة المعنى إلى الهوامش المحايثة، بعد تاريخ إقصاء طويل. فعلى الرغم مما قد يُثار من نقاش حول المقصود بـ"التناسج" الذي قد يُفهَم بوصفه إبدالًا فقط لمفهوم "المثاقفة"، نشير في سياق حديثنا الراهن، إلى أن الإبدال أو الاستبدال لا يُستفاد منه الانفصال التام دائمًا. ذلك أن "التناسج" مبنيٌّ على منطلق آخر للنقاش يبرز العناصر المضمرة في رحلة "المثاقفة". كما يعيد إثارة أسئلة أخرى تتأسس على منطق الاستيعاب والتجاوز، لا منطق القطيعة والانفصال. وهي أسئلة غير تلك التي أثارها "مسرح المثاقفة".
وقد يتساءل بعضنا -في الاتجاه نفسه- مع صديقنا روستم بهاروتشا: هل بإمكان النماذج الجديدة إلغاء القديمة التي تنبعث منها، من خلال التعارض والحاجة الملحة إلى رؤية الأشياء بطريقة مختلفة؟ إن الخطاب الذي يحيط بالنماذج الجديدة يجد نفسَه ملاحقًا بأشباح الماضي. فالأشباح، إذا ما استعرنا عبارة دريدا، لديها القدرة على انتياب الجديد، إذ تعاود الظهور ضمن نطاق رؤية "جديدة"[65]. يرى بهاروتشا أن المشروعين البحثيين معًا: ("مسرح المثاقفة" و"تناسج ثقافات الفُرْجة") "يتقاسمان علاقة تكافلية مكثفة عن اهتمامات مشتركة؛ ولكن بتعبيرات مختلفة"[66]. وعلى الرغم من التداخل الواضح بين المصطلحين، فإنهما لا ينتميان إلى الحقل الدلالي نفسه، حسب فيشر ليشته: "فكلاهما لم يتأسس بعد مفهومًا علميًّا دقيقًا بل استعارات في انتظار تحولات مستقبلية من شأنها أن تطورهما إلى مفاهيم إجرائية واضحة"[67].
لم يعد هناك مجال للمزايدات بخصوص التأثيرات الغربية في المسرح العربي، وذلك لأن المسرح، ببساطة، فنٌّ طارئ على البلاد العربية. كما أن إنجازات التجارب الغربية والشرقية أصبحت جزءًا لا يتجزأ من التاريخ المسرحي الإنساني (بشرقه وغربه، شماله وجنوبه). والحاصل أن "عبارات الرفض تجاه الثقافة الغربية لا يمكن أن تشكل بحد ذاتها ثقافة، والشطحات على آثار الذات السليبة لا تعيدها إلى الحياة. مع مرور الأيام سيزداد حتمًا عدد مَن لا يغرق في التقنية ويسأم من نُواحٍ عقيم فيدرك حقيقة التحول الذي حصل يومًا في تاريخ أوربا"[68]. وعندما يتحقق ذلك وتطمئن النفس العربية وتتصالح مع التاريخ، كما يذكرنا المفكر المغربي عبد الله العروي، "سيتواصل البحث عن الأصالة، لا شك في ذلك، لأنه الوجه الآخر لضعفنا الراهن، عجزنا عن تطويع الطبيعة والتحكم في المجتمع. سيظل انصداع ذاتنا يشير إلى ترددنا بين تاريخين، بين زمنين، كلاهما حلّ فينا، إلا أننا سوف نتقبله كمحنة عابرة لا كلعنة دائمة"[69]. ولعل بداية نهاية "المحنة العابرة" بدأت تلوح في الأفق مع انعطافات ما بعد "الربيع العربي" والوعي الديكولونيالي.
ومن جانب آخر، عندما نتأمل في مسارات التنظير والنقد المسرحيين نلاحظ ما يأتي: لقد ركز البحث المسرحي الدولي، كما يتجلى في نقاشات الفيدرالية الدولية للبحث المسرحي International Federation for Theatre Research (IFTR) والجمعية الدولية لدراسات الفُرْجة Performance Studies international (PSi) على العالم لفترة طويلة، قبل أن يُخضِع نفسه لتغيير داخلي جذري وصل إلى حد الرّجة. ومن الأسئلة الوجيهة التي طرحها البحث المسرحي الدولي لإعادة النظر في مركزيته، وحاول أن يتقيد بمضمونها هي: أَمِن واجب كل الثقافات -وبخاصة تلك التي عانت من الاستعمار- أن تتبنى السرد الأحادي لتاريخ المسرح الذي فرضته أوروبا على آخرها، أم عليها البحث عن أنجع السبل للمصالحة مع ذاتها الفُرْجوية والغوص عميقًا في الماضي الخاص بها؟ وفي إطار هذا التساؤل دائمًا، هل على كل مَن درس ماضيه أن يسعى جاهدًا، وبشكل جبري، إلى محاولة إعادة إحياء ذلك الماضي، في شكله الماضوي الخالص من جديد؟
لقد بدأت شُعَب المسرح في الجامعات الغربية تعيد النظر في مهامها وأهدافها انطلاقًا من العقدين الأخيرين في القرن العشرين، فقد أدرك حينها أساتذة المسرح أنهم قد أصبحوا منعزلين عن مشهد الفنون الأدائية السريع التحول بفعل تناسج ثقافات الفرْجة والتحولات الطارئة على المسرح بوصفه وسيطًا موسّعًا يستوعب الوسائط الأخرى. وعلى الرغم من اتساع مجال اشتغال مشروع دراسات الفرجة Performance Studies،[70] فلا يزال بحاجة إلى المزيد من الجهد لتفادي التمركز الأورو-أمريكي، ومع انفتاح الجمعية الدولية لدراسات الفرجة PSi على أصوات العالم إلا أنها وكما تقول جانيل رينلت Janelle Reinelt الرئيس الأسبق للفيدرالية الدولية للبحث المسرحي IFTR (2003-2007): "ستواجه الفيدرالية تحديًا أكبر في العقد المقبل، ألا وهو محاولاتها الحثيثة حتى تكون دولية بحقٍّ. فلا يزال التناقض قائمًا بين التطلع نحو العالمية والهيمنة الأنجلو-أمريكية على المنظمة"[71]. ونستشف إذن من هذه الشهادة أننا، نحن المتموقعين جنوبًا في ظل النظام العالمي الجديد، نحتاج إلى إعادة النظر في "دراسات الفرجة" من موقعنا نحن هنا في الضفة الجنوبية والآن.
[1] یعرف توماس كون Thomas Samuel Kuhn الإبدال paradigm بمعناه الإبستیمولوجي بوصفه "مجموع القناعات والقیم السائدة والطرق والأدوات المتعارف عليها من طرف أعضاء جماعة علمیة بعينها"، إذ یحدِّد الإبدالُ (أو النموذج الإرشادي في بعض الترجمات العربية كالتي قدمها شوقي جلال) سلوكَ الأفراد ووعيهم والعملیات المقبولة والمرفوضة من الجماعة العلمیة داخل مجال اشتغالها، وینطبق هذا المفهوم على كل ممارسة مؤسّسیة منظمة بقوانین وأعراف وقناعات تحدِّد قواعد السلوك والفعل. راجِع: توماس كون. بنیة الانقلابات العلمیة، ترجمة سالم يافوت (الدار البیضاء: دار الثقافة، الطبعة الأولى، 1992)، ص 216.
[2] عبد الله إبراهيم. الثقافة العربية والمرجعيات المستعارة (الرباط: منشورات الاختلاف، 2010)، ص 9.
[3] المرجع السابق نفسه.
[4] المرجع السابق، ص 53.
[5] المرجع السابق، ص 18.
[6] المرجع السابق، ص 117.
[7] كما ورد في: المرجع السابق، ص 20.
[8] Walter Mignolo, Local Histories/Global Designs: Coloniality, Subaltern Knowledges, and Border Thinking (Princeton: Princeton University Press, 2012), p. x.
وأنوِّه إلى أن جميع الاقتباسات الواردة من مراجع أجنبية هي من ترجمتي، ما لم ترد إشارة إلى غير ذلك في المراجع.
[9] بدأت مسارات التحديث قبل الحملة النابليونية، في الشام ومصر، كما يؤكد ذلك عبد الله إبراهيم: "يبدو الحديث عن أثر ثقافي عميق للحملة الفرنسية مفرغًا من المعنى الذي أُلحِق بها فيما بعد؛ فالسياق الذي ترتّبت فيه تلك العملية العسكرية كان ذا مقاصد مختلفة. فقد كان جزءًا من رغبة أوسع، ولا يمكن عدّها حدًّا فاصلًا بين حقبتين، فمحاولات التحديث هبّت على بلاد الشام ومصر منذ القرن الثامن عشر، لكنها محاولات بطيئة ترتّب أمرها ضمن سياق محاط بظروف تاريخية صعبة، وربما تكون الحملة العسكرية قد أعاقت التطور الطبيعي في مسار التحديث المدني الذي كان في أول أمره، فانتظرت مصر طويلًا، قبل أن تستأنف ذلك المسار مرة ثانية". (السردية العربية: تفكيك الخطاب الاستعماري وإعادة تفسير النشأة. بيروت، عمان: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط 1، 2013، جزء 1، ص 50)، وأما فيما يخصّ عملية استنبات البناية/البنية المسرحية في عالمنا العربي الحديث فقد انطلقت بعد الحملة النابليونية.
[10] Philip Sadgrove, The Egyptian Theatre in the Nineteenth Century: 1799-1882 (Ithaca: Ithaca Press, 2007), p. 28.
[11] Karl Marx, “The Future Results of British Rule in India”, New-York Daily Tribune, 8 August, 1853; reprinted in the New-York Semi-Weekly Tribune, No. 856, August 9, 1853. http://www.marxists.org/archive/marx/works/1853/07/22.htm
[12] Abdelkébir Khatibi, “The Decolonization of Arab Sociology”. Contemporary North Africa: issues of Development and Integration, edited by Halim Barakat. (London: Croon Helm, 1985), p. 12.
[13] للمزيد عن مقاربتنا للتراجيديا وأصولها، راجع: الفن المسرحي وأسطورة الأصل (طنجة: منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة، 2002).
[14] William Ridgeway. The Dramas and Dramatic Dances of Non-European Races (Cambridge University Press, 1915), p. 5.
[15] Eugenio Barba. The Moon Rises from the Ganges: My Journey through Asian Acting Techniques, edited and introduced by LLuis Masgraw. (London: Routledge, 2015), p. 11.
[16] المرجع السابق نفسه.
[17] Patrice Pavis (ed.). The Intercultural Performance Reader (London and New York: Routledge, 1996), p. 19.
[18] يُعد الهاناميتشي Hanamichi في مسرح الكابوكي الياباني عبارة عن ركح إضافي يمتد من عمق يسار الخشبة نحو الجمهور وقد وقفت عليه فيشر ليشته في أكثر من محطة لأهميته في مسارات المثاقفة المسرحية. ويستعمل الهاناميتشي عادةً من طرف المؤدين أثناء دخولهم أو خروجهم. كما يستعمل أيضًا في حالات البوح الانفرادي أو المشاهد المعزولة عن الحدث الرئيسي. وتعني الكلمة المسار الوردي الذي يربط بين الخشبة والصالة. وتصف فيشر ليشته في سياق آخر الهاناميتشي بوصفه مسارًا يخترق الصالة من الجانب الأيسر ويكون باتساع نحو متر ونصف.
ينظر كتاب إيريكا فيشر ليشته، من مسرح المثاقفة إلى تناسج ثقافات الفرجة، ترجمة وتقديم خالد أمين (طنجة: منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة، 2016)، ص 129.
[19] في السياق ذاته، تتيح العلاقة الجدلية المتكاملة بين الصوت والحركة في مسرح الكابوكي، مثلًا، انزياح الحركة من حيث هي وسيلة للتسنين بموازاة الكلمة المنطوقة واللغة الشفاهية. وذلك ما لاحظه بريشت ذاته في الممثل الصيني حين قال: "لا نلمس مطلقًا كونه يمثل، كما لو أن ثمة جدارًا رابعًا مضافًا إلى الثلاثة الأخرى. فهو يفصح عن وعي بأنه يرى من لدن جمهور". كما تُجلي القراءة الجينالوجية لفكرة التغريب أن بريشت طوّر المصطلح من التغريب Verfremdung إلى الاستلاب Entfremdung، كما عرَّفه ماركس وإنجلز، وانتهاءً بصياغته التركيبية المتمثلة في أثر التغريب Verfremdungs Effect الذي وظّفه بريشت، لأول مرة، عام 1935 في مقالة مكتوبة حول الإنتاج الذي أنجزته فرقة مسرحية صينية بقيادة الفنان العبقري مي-لان-فانج Mei Lanfang. للمزيد من المعلومات ينظر:
John Willett (editor and translator), Brecht on Theatre: The Development of an Aesthetic (London: Methuen, 1974), pp. 91-99.
Braba, The Moon Rises from the Ganges: My Journey through Asian Acting Techniques, p. 12.
[20] Peter Brook, The Empty Space (New York: Touchstone, 1995), p. 11.
[21] Rustom Bharucha, Theatre and the World (New Delhi: Manohar Publications, 1990), p. 81.
[22] المرجع السابق نفسه.
[23] يُنظر الكتاب القيم الذي أنجزته الباحثة الأمريكية ليزا ولفورد Lisa Wolford والذي كان ذا فائدة قصوى لنا؛ وغنيٌّ عن البيان أن نقول إن ليزا ولفورد كانت أحد أبرز تلامذة غروتوفسكي الذين رافقوه في العديد من المختبرات المسرحية الجامعية بدءًا من جامعة أرفين Irving بكاليفورنيا.
Lisa Wolford, Grotowski’s Objective Drama Research (Mississipi: University Press of Mississipi, 1996), p. 16.
[24] Daphne P. Lei, Alternative Chinese Opera in the Age of Globalization (Performing Zero) (London: Palgrave Macmillan, 2011), pp. 181-182.
[25] Eugenio Barba and Nicola Savaresse, The Secret Art of the Performer (New York: Routledge,1991), pp. 187-188.
[26] المقصودُ بالدراماتورجيا الركحية سيرورة الكتابة تحت كشافات الضوء، حيث يشترك فريق العمل في إنجازها فوق الركح (الخشبة).
[27] Edinburgh International Festival. “2011 One Thousand and One Nights – Edinburgh International Festival.” YouTube, 10 June, 2011, (Access date: 18 March, 2020) https://www.youtube.com/watch?v=prTFGqDXUhY.
[28] المرجع السابق نفسه.
[29] فرانز فانون. معذبو الأرض. ترجمة سامي الدروبي وجمال الأتاسي (القاهرة: مدارات للأبحاث والنشر، 2014)، ص 257.
[30] رضوان احدادو. فرجات مسرح البساط في شمال المغرب (طنجة: منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة، 2021)، ص 12.
[31] عبد الله إبراهيم. المطابقة والاختلاف: المركزية الغربية: إشكالية التكون والتمركز حول الذات (الدار البيضاء، بيروت: المركز الثقافي العربي، 1997)، ص 5-6.
[32] Walter D. Mignolo, Local Histories/Global Designs: Coloniality, Subaltern Knowledges, and Border Thinking (Princeton: Princeton University Press, 2012), p. xxi.
[33] Michel Foucault, The History of Sexuality, Vol 1 (New York: Random House, 1978), pp. 95-96.
[34] Homi Bhabha, “Our Neighbours, Ourselves: Contemporary reflections on Survival”, Lecture presented at the Hegel Lectures Series, Dahlem Humanities Center, Freie Universität Berlin, 28 January, 2010, (published in Berlin/New York by Walter de Gruyter GmbH & Co. KG, 2011), p. 6.
[35] Homi Bhabha, “The Third Space, Interview with Homi Bhabha”. Identity, Community, Culture, Difference, edited by Jonathan Rutherford. (London: Lawrence and Wighart, 1990), p. 211.
[36] Homi Bhabha, Interview with Gary Olson and Lynn Worsham, Race, Rhetoric, and The Postcolonial (New York: State University of New York Press, 1999), p. 39.
[37] محمد يوسف نجم. المسرحية في الأدب العربي الحديث (1847-1914) (بيروت: دار الثقافة، ط1، 1967)، ص 17.
[38] علي الراعي. المسرح في الوطن العربي (الكويت: سلسلة عالم المعرفة، ع 248، 1999)، ص 29.
[39] المرجع السابق، ص 496.
[40] يوسف عيدابي. "أحديث خرافة؟!" الهيئة العربية للمسرح. (تاريخ الدخول: 20 نوفمبر 2022). أحديث خرافة ؟! – د.يوسف عايدابي/https://atitheatre.ae
[41] حسن المنيعي. المسرح مرة أخرى (طنجة: منشورات شراع، 1999)، ص 50.
[42] Abdelkébir Khatibi, Chemin de traverse: essais de sociologie, textes réunis et revus par Saϊd Nejjar (Rabat: Editions Okad, 2002), pp. 79-81.
[43] Achille Mbembe, On the Postcolony (Berkeley, CA: University of California Press, 2001), p. 14.
[44] إيريكا فيشر ليشته، من مسرح المثاقفة إلى تناسج ثقافات الفرجة، ترجمة وتقديم خالد أمين (طنجة: منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة، 2016)، ص 159.
[45] Sulayman Al-Bassam, Adapting Shakespearean Drama for and in the Middle East: Process and Product (PhD thesis, University of Hertfordshire, 2017), p. 7.
[46] Shirley Dent, “Interview: Sulayman Al-Bassam,” quoted by Graham Holderness and Bryan Loughrey in “Arabesque: Shakespeare and Globalisation”, Globalisation and its Discontents, edited by Stan Smith (Cambridge: The English Association, 2006), p. 42.
[47] Erika Ficher-Lichte, “Theatre Studies at the Crossroads”. Modern Drama: Defining the Field, edited by Ric Knowles, Joanne Tompkins, and W. B. Worthen (Toronto: University of Toronto Press, 2003), p. 56.
[48] Sulayman Al-Bassam, interview with Margaret Litvin, PMLA 129. 4 (2014), 853.
[49] Bhabha, The Location of Culture, p. 1.
[50] Mignolo, Local Histories/Global Designs, p. 67.
[51] Margaret Litvin, “When the Villain Steals the Show: The Character of Claudius in Post-1975 Arab(ic) Hamlet Adaptation,” Journal of Arabic Literature Vol: 38, No. 2 (2007), p. 210.
[52] جواد الأسدي. انسوا هاملت (بيروت: دار الفارابي، 2000)، ص 9.
[53] جان بيير سرزاك. "تقاسم الأصوات"، ترجمة حسن المنيعي. ضمن شعرية الدراما المعاصرة (طنجة: منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة، 2017)، ص 54.
[54] عصام اليوسفي. دموع بالكحول (الرباط: إيسكيك، 2013)، ص 9.
[55] المرجع السابق نفسه.
[56] باتريس بافيس. الدراماتورجيا وما بعد الدراماتورجيا ترجمة خالد أمين وسعيد كريمي (طنجة: منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة، 2014)، ص 8.
[57] Hans-Thies Lehmann, Postdramatic Theatre (London and New York: Routledge, 2006), p. 109.
[58] ينظر: يوسف بزي. "’أنشودة الفرح’ لربيع مروة.. ما ابتدأ في ميونيخ وانتهى في تدمر". العين الإخبارية. ٢٤ نوفمبر ٢٠١٥ (تاريخ الدخول: 15 نوفمبر 2022). https://al-ain.com/article/12201
[59] Rabih Mroué, Image(s), mon amour: FABRICATIONS (Madrid: Centro de Arte Dos de Mayo, 2013), p. 148.
[60] التقليلية هي حركة فنية ازدهرت في الستينيات من القرن الماضي، إذ خرجت من معطف المدرسة التجريدية. ولعل أهم ميزاتها هي تقديم الأعمال الفنية بأقل عدد ممكن من العناصر والألوان. كما تعتمد الاختزالية في التناول والاستغناء عن التفاصيل.
[61] Rabih Mroué, Image(s), mon amour: FABRICATIONS, p. 221.
[62] الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، كلمات في المسرح (الشارقة: منشورات القاسمي، 2014).
[63] Mignolo, Local Histories/Global Designs: Coloniality, Subaltern Knowledges, and Border Thinking, p. x.
[64] عبد السلام بنعبد العالي، كأنك تقول الشيء نفسه (ميلانو: منشورات المتوسط، 2022)، ص 8.
[65] جاك ديريدا. حمى الأرشيف الفرويدي، ترجمة عدنان حسن ( اللاذقية: دار الحوار للنشر والتوزيع، 2003)، ص 139.
[66] Rustom Barucha, “Hauntings of the Intercultural: Enigmas and Lessons on the Borders of Failure”. The Politics of Interweaving Performance Cultures: Beyound Postcolonialism, edited by Erika Fischer-Lichte, Torsten Jost and Saskya Iris Jain. (New York: Routledge, 2014), p. 194.
[67] Erika Fischer-Lichte, “Introduction: Interweaving Performance Cultures: Re-thinking ‘Intercultural Theatre’ Towards an Experience and Theory of Performance beyond Postcolonialism”. The Politics of Interweaving Performance Cultures: Beyound Postcolonialism, edited by Erika Fischer-Lichte, Torsten Jost and Saskya Iris Jain, p. 11.
[68] عبد الله العروي. الإيدولوجيا العربية المعاصرة (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، ط2، 1999)، ص 86.
[69] المرجع السابق نفسه.
[70] غالبا ما تترجم الكلمة الإنجليزية Performance في المشرق العربي ب "الأداء". بالنسبة إلى أهل المغرب العربي، هناك ميل لترجمتها ب "الفرجة" بوصفها كلمة جامعة. في البدء يتعين الإشارة إلى أن كلمة "أداء" متعددة المظاهر ومتشعبة المعاني إلى درجة يصعب حصر كل مجالاتها الدلالية وأوجه استعمالاتها. كما أنها تطرح مشاكل عديدة حينما تترجم إلى اللغات الأخرى. يغدو استعمالنا لكلمة "فرجة" في الترجمة الحالية مرادفا وليس بديلا عن "الأداء". مع العلم أن "الأداء" يوحي بأحادية الإنجاز خاصة حينما يتعلق الأمر بالمسرح، وكأن العرض المسرحي ينجز فقط من لدن مؤدين لصالح جمهور سلبي. فالفرجة، بالنسبة لنا، هي أشمل من الأداء ومن المسرح، وذلك لكونها قد تشمل الشعائر، والاحتفالات، والألعاب الرياضية.... لقد اكتسبت كلمة "فرجة" بالتدريج في اللسان العربي المعنى الذي تشير إليه كلمة spectacle، والمتفرج spectateur. إذا ما تتبعنا المسارات الإيتيمولوجية لكلمة "فرجة" في مختلف المعاجم العربية سنجد أنها تطورت من "الشق بين الشيئين" كما هو وارد في الذكر الحكيم "وإذا السماء فرجت"، أي انشقت، إلى "انكشاف الغم ومشاهدة ما يتسلى به". والحال أن الاستعمال الأخير يتضمن في خلفيته معنى إحداث تأثير في النفس والآخرين (انكشاف الغم، ومشاهدة ما يتسلى به)... كما أن تداول كلمة "فرجة" في المغرب الكبير أكثر قوة من المشرق؛ إنها باختصار تنطوي على قوة الفعل.
[71] D. Chakrabarty, "Postcoloniality and the Artifice of History," Representations, no. 37, 1992, pp. 1–2.